قوله - عز وجل -: { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ }: قيل فيه بوجوه: قيل: لا يترك الله المؤمنين على ما أنتم عليه أيها المنافقون؛ ولكن يمتحنكم بالجهاد وبأنواع المحن؛ ليظهر المنافق لهم من المؤمن. وقيل: ليظهر الكافر لهم من المؤمن المصدق. وقيل: فيه بوجه آخر: وذلك أن المنافقين كانوا يطعنون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستهزئون بهم سرّاً؛ فقال الله - عز وجل -: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الطعن فيهم؛ والاستهزاء بهم؛ ولكن يمتحنكم بأنواع المحن؛ لتفتضحوا وليظهر نفاقكم عندهم. ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن قوله: { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } ، أي: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من النفاق والكفر في دار واحدة؛ ولكن يجعل لكم داراً أخرى يميمز فيها الخبث من الطيب. [يجعل الخبيث في النار، والطيب في الجنة؛ كقوله - عز وجل -:{ لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ] وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } الآية [الأنفال: 37]. وقوله: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ }: قيل فيه بوجهين: قيل: إنهم كانوا يقولون: لا نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي الأنبياء؛ كقولهم:{ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ } [الأنعام: 124]؛ ومثل قوله:{ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } [المدثر: 52]؛ فعلى ذلك قوله: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } إلا من اجتباه لوحيه، وجعله موضعاً لرسالته، أي: لا يجعلكم رسلاً؛ إذ علم الغيب آية من آيات رسالته، والله أعلم. وقيل: إن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء، فيسترقون؛ فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الكهنة يخبرون بها غيرهم من الكفرة؛ فأنزل الله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ }: بعدما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيّاً، كما كنتم تطلعون على أخبار السماء قبل بعثه. { وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } أي: يصطفي من يشاء، فيجعله رسولاً، فيوحي إليه ذلك، أي: ليس الوحي من السماء إلى غير الأنبياء، عليهم السلام. ويحتمل قوله - تعالى -: { يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } ، أي: لا يُطْلِعُ أحداً منكم على الغيب إلا من اجتباه منكم لرسالته. ويحتمل [قوله]: { يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } ، أي: لا ينسخ شرائعه وأحكامه برسول آخر؛ نحو ما بَيْن موسى إلى عيسى - عليهما السلام - ولكنه إن كان فيما بينهما نبي لم يجعل له أحكاماً سوى أحكام موسى - عليه السلام - أبقى تلك الأحكام والشرائع؛ وكذلك ما بين عيسى إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - فاجتبى هؤلاء؛ لإبقاء شرائعهم وأحكامهم، والله أعلم. وقوله - عز وجل -: { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ }: ظاهر { وَإِن تُؤْمِنُواْ }: برسله كلهم. { وَتَتَّقُواْ }: المعاصي. { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ويحتمل: { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } الشرك [فلكم أجر عظيم].