الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ } * { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ }

قوله - عز وجل -: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ }:

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: فبرحمة من الله عليك لنت لهم؛ كقوله:وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107] ويحتمل قوله: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ }: فيجب أن يكون الإنسان رحيماً على خلقه؛ على ما جاء في الخبر قال لأصحابه: " لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتََّى تَرَاحَمُوا " ، فقيل: كلنا نرحم يا رسول الله، فقال: " لَيْسَ تَرَاحُمَ الرَّجُلِ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ، وَلَكِنْ يَتَرَاحَمُ بَعْضُهُم بَعْضاً " أو كلام نحو هذا.

وما جاء: " مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، ولَمْ يُوَقِّر كَبِيرَنَا - فَلَيْسَ مِنَّا " ، وما جاء: " مَنْ لَمْ يَرْحَمْ أَهْلَ الأَرْضِ لَمْ يَرْحَمْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ " كما قال الله - تعالى -:قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } [الجاثية: 14] الآية، وقد أمر الله عباده أن يعامل بعضهم بعضاً بالرحمة واللين، إلا عند المعاندة والمكابرة؛ فحينئذ أمر بالقتال؛ كقوله لموسى وهارون - حيث أرسلهما إلى فرعون - فقال:فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه: 44]، وكان اللين في القول أنفذ في القلوب، وأسرع إلى الإجابة، وأدعى إلى لطاعة من الخشن من القول، وذلك ظاهر في الناس؛ لذلك أمر الله - عز وجل - رسلهم باللين من المعاملة، والرحمة على خلقه، وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها، وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله:

{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً }.

[في القول]

{ غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }

أي: لو كنت في الابتداء فظّاً غليظاً لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك.

وقوله - عزّ وجلّ -: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ } بأذاهم إياك ولا تكافِهِم، واستغفر لهم فيما بينهم وبين ربهم.

ويحتمل قوله: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ }

بما عصوك ولا تنتصر منهم، وكذلك أمر الله المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم، وألا ينتصروا منهم بقوله:فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } [البقرة: 109] وكان أرجى للمؤمنين قوله: { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ }؛ كما قال الله - تعالى -:قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ... } الآية [الجاثية: 14]، وقوله - أيضاً -:وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [محمد: 19]: لا جائز أن يؤمر بالاستغفار لهم ثم لا يفعل، وإذا فعل لا يجاب؛ فدل أنه ما ذكرنا، والله أعلم.

وكذلك دعاء إبراهيم - عليه السلام -:رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } [إبراهيم: 41]، ودعاء نوح - عليه السلام -:رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [نوح: 28] لا يجوز أن يدعو هؤلاء الأنبياء - عليهم السلام - ثم لا يجاب لهم.

وقوله - عز وجل -: { وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْر }:

أمر الله - عز وجلّ - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمر؛ ففيه وجوه ثلاثة:

أحدها: أنه لا يجوز له أن يأمره بالمشاورة فيما فيه النص، وإنما يأمر بها فيما لا نصّ فيه؛ ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد.

السابقالتالي
2 3