الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ }

قوله: - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ }.

قيل: السرّاء: الرخاء، والضراء: الشدة.

وقيل: السراء: السعة، والضراء: الضيق؛ وهو واحد.

وقيل: السراء: ما يسرهم الإنفاق؛ من نحو الولد وغيره، يسرّه الإنفاق عليه، والأجنبي يضره.

وعلى تأويل الأول: أن الإنفاق في حال الرخاء والسعة - أيسر وأهون على المرء من الإنفاق في حال الضيق والفقر، فإذا أنفق في الأحوال استوجب بذلك المدح، والله أعلم.

والسبب الذي يُيَسِّرُ عليه الأمر وجهان:

أحدهما: علمه بأن الذي في يديه في الحقيقة في يد الله؛ فهو يصرف ذلك حيث يصرفه، لم يخرجه من يد مَنْ يَدُهُ فِي يَدِهِ، كأنه يعد في يده.

والثاني: بعلمه بجود ربه وقدرته، حيث يكون ذلك فيما به قضاء حاجته، والوصول إلى منفعته مع ما يعلم بالجود، وكثرة الانتفاع بما لا ملك للمنتفع به، وحرمان ذي الملك ذلك فيه.

قال الشيخ - رحمه الله - في قوله: { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ }: يحتمل فيما يسرّهم ويضرّهم، أو في حال يسر وعسر، أو حلال بلاء ونعمه.

ثم السبب الذي يسهل سبيل الإنفاق في تلك الأحوال - وإن كان بالذي ذكر في تسهيل التقوى - هذا وجوه ثلاثة:

أحدها: أن ترى مالك لمن له يد امتحنك بحق ذلك وحفظه، وأنك إذا بذلته ارتفعتْ عنك مئونة الحفظ، ومراعاة الحق على ما لم يكن ذلك عنك نفعه الذي كان له وقت كونه في يدك؛ إذ هو بعد البذل في يد من يدك قبله في يده، فكأنه لم يخرج من يدك بحيث النفع، وإنما سقطت عنك ما ذكرت من المئونة؛ إذ معلوم وجودها لك في الظاهر؛ لا منتفع به، ومن لا ملك له في الشيء منتفع به، على العلم باستواء الأمر على من له بذلت، والله أعلم.

والثاني: أن تشعر قلبك جوده بمن آثره على ما عنده، وقدرته على إعطائه إياه من خزائنه التي لا تنفد، ولا يتعذر عليه، فتيقن بذلك، وتعلم أنه لك على الإيصال إليه؛ فيما لم يكن أوصله، وعلى ذلك فيما أعطاه في القدرة واحد؛ فيهون عليه ذلك؛ والله أعلم.

والثالث: أن تعلم أنّ الذي عليه جبل وإليه دفع؛ ليس للوقت الذي فيه؛ ولكن ليتزود لمعاده، ويكتسب به الحياة الدائمة، والمنفعة التي لاتنفد، فيصير كبائع الشيء بأضعاف ثمنه، أو كباذل ما فيه فكاك رقبته، أو كمقدم ما يمتهن إلى مكان مهنته، أو كمن يعدّ الشيء في مسكنه لوقت حاجته، فإن مثله آثَرُ الشيء على الطبيعة، وألذ شيء في العقل. ولا قوة إلا بالله.

ثم الأصل في قوله: { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي: من لم يبلغ بما يرتكب من المعاصي - الكفر، لم يمتنع من احتمال التسمية المتقين على إرادة خصوص التقوى؛ وهو ممتنع عن احتمال التسمية بالكفر على صرف الآية في إعداد النار إلى خصوص أو عموم، فثبت به خروج صاحب الكبائر عن أهل الاسم الذي أعدّت له النار، ولم يثبت خروجه عن أهل الاسم الذي له أعدت الجنة، [فالقول فيه، وإنما ذلك في الجنة فاسد بأوجه:

أحدهما: مع الإشكال فيما يحرم الجنة] والإحاطة بأنّ النار لم يذكر أنها أعدت له أدخل فيها، فيكون في ذلك إسقاط [شهادة تثبت بيقين بالشك، وإيجاب شهادة لم تجب بالخيال.

السابقالتالي
2 3 4