الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } * { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } * { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ }

قوله: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً }: يذكر هذا النبأ لوجهين:

أحدهما: يصبر رسوله على أذى قومه؛ لأنه ذكر أن نوحاً لبث في قومه ألف عام غير خمسين عاما، كان يدعوهم إلى توحيد الله، فلم يجبه إلا نفر من أهله؛ فلم يمنعه من الدعاء إلى دين الله ما أوعدوه من المواعيد حيث قالوا:لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } [الشعراء: 116] ونحو ذلك من المواعيد، فذلك لم يمنعه عن الدعاء؛ ولذلك قال:فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 35].

والثاني: ينقض على المتقشفة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن الموعظة إنما لا تنجع في الموعوظين لتفريط الواعظ وترك استعمال نفسه ذلك، فيقال: إن نوحاً قد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلم يجبه إلا نفر؛ فلا يحتمل أن يكون منه تقصير أو تفريط؛ فدل أنها لا تنجع ربما لشقاوة الموعوظ.

وقوله: { فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ }: قال بعضهم: هو المطر الشديد.

وجائز أن يكون الطوفان كل بلاء فيه الهلاك.

والطوفان هو ما أرسل عليهم من الماء فأغرقهم، والله أعلم.

وقوله: { فأَنْجَيْناهُ } أي: نوحاً، { وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ } أي: من دخل السفينة، { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } قال بعضهم: جعلها آية: هو أن هلكت كل سفينة كانت، وهي باقية اليوم على ما هي عليه.

وقال بعضهم: { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً } لمن بعدهم، فتمنعهم عن تكذيب الرسل والعناد معهم.

قال الزجاج: الاستثناء يخرج على تأكيد ما تقدم من الكلام؛ كذكر الكل على أثر ما تقدم من الكلام، أو كلام نحوه.

وقلنا نحن: إن كان ما تقدم من الذكر كافياً تامّاً، فيخرج الثنيا على أثره مخرج التأكيد لما تقدم؛ نحو قوله:إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا } [الحجر: 58-59]، قوله: { إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } كافٍ تام مفهوم ألاَّ يدخل فيه آل لوط حيث ذكر المجرم؛ إذ آله غير مجرمين، فهو كاف مفهوم لا يحتاج إلى ذكر آل لوط، لكنه ذكر على التأكيد له.

وكذلك قوله:مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ } [النساء: 24] ومُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ } [النساء: 25]؛ إذا قال: محصنين: يفهم أنهن غير مسافحات ولا متخذات أخدان، لكنه ذكر على التأكيد.

وإذا كان ما تقدم من الكلام محتملا مرسلا، فيخرج ذكر الثنيا مخرج تحصيل المراد منه على إضمار حرف " مِن " فيه؛ كقوله: { أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } كأنه قال: فلبث فيهم من ألف سنة تسعمائة وخمسين؛ وكذلك قول الناس لفلان: عليّ عشرة دراهم إلا كذا، كأنه قال: لفلان علي من عشرة دراهم كذا، فهو على التحصيل يخرج ذكره.

وقال بعضهم: الطوفان كل ماء طافٍ فاشٍ من سبيل أو غيره؛ وكذلك الموت الجارف يسمى الطوفان وماء الطوفان، وهو ما ذكر في سورة الأعراف.

السابقالتالي
2