الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } * { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ }

قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }: فيه وجهان من الاستدلال:

أحدهما: في خلق أفعال العباد.

والثاني: في ترك الأصلح.

أمّا الاستدلال على خلق الأفعال: لأنه قال: { آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } ، وقال على أثره: { عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ } ، وقال في رسول اللهوَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [يس: 69]، وقال:ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [الرحمن: 1-4]، ونحوه من الآيات فيما أضاف التعليم والفعل إلى نفسه، فلو لم يكن له في ذلك صنع لم يكن لإضافة ذلك إليه معنى؛ فدل أنه خلق أفعالهم منهم.

فإن قيل: إنما أضاف ذلك إلى نفسه بالأسباب التي أعطاهم.

قيل: لا يحتمل ذلك؛ لأنه قد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع أسباب الشعر، ولم يكن غيره من الشعراء أحق بأسباب الشعر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبر أنه لم يعلمه الشعر؛ دل أنه لم يرد به الأسباب، ولكن أراد ما ذكرنا.

وأما في ترك الأصلح: فهو ما ذكر من قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } ، وقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } ، أنه إنما ذكر هذا على الامتنان والإفضال، فلو كان لا يجوز له ألاَّ يعطيه ذلك، ولا كان له ترك ما فعل بهم من الإفضال - لم يكن لذكر ذلك له على الإفضال والامتنان معنى، ولا كان داود وسليمان يحمدانه على ما أعطاهما، ولا كان هو يستوجب الحمد بذلك؛ إذ فعل ما عليه أن يفعل؛ دل أنه إنما أعطى ذلك لهم وفعل بهم ذلك على جهة الإفضال والامتنان، وكان له ترك ما فعل، وإن كان ذلك ليس أصلح في الدين. فهذان الوجهان ينقضان على المعتزلة مذهبهم في إنكارهم خلق الأفعال، وجواز ترك الأصلح في الدين.

ثم قوله: { عِلْماً }: قال بعضهم: علما بالقضاء والحكم والعلم بكلام الطير والدواب.

وقال بعضهم: فضلا بالنبوة والعلم.

لكن عندنا ذكر أنه آتاهما العلم، ولم يبين ما ذلك العلم أنه علم ماذا؟ مخافة الكذب على الله، والله أعلم.

وقوله: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ }: قال أهل التأويل: ورث النبوة والحكم، والوارث: هو الباقي بعد هلاك الآخر وفنائه، كقوله:إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } [مريم: 40] أي: نبقى بعد هلاك أهلها وفنائهم، وقوله:وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ } [الحجر: 23] أي: الباقون بعد فنائهم، إلا أنه ورث شيئاً لم يكن له من قبل؛ وكذلك قوله:وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ... } الآية [الأحزاب: 27]، أي: أبقاكم وترككم في أرضهم وديارهم، وقوله:وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا } [الزخرف: 72] أي: أبقيتم فيها، وأمثال ذلك كله راجع إلى البقاء؛ فعلى ذلك قوله: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أي: بقي في ملكه ونبوته؛ وعلى ذلك ما سأل زكريا ربه من الولد حيث قال:

السابقالتالي
2 3 4