الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً } * { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } * { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } * { ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً }

قوله: { وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً }: قال بعضهم: المهجور: هو الذي لا ينتفع ولا يعمل به وقال أبو عوسجة والقتبي: مهجوراً أي: تركوه مهجورا، أي: متروكا، ويقال: مهجورا أي: كالهذيان، والهجر الاسم يقال: فلان يهجر في منامه، أي: يهذي، وهو بالفارسية " بلايه كفتى ".

وقوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ } ، أي: مثل الذي جعلنا لك من العدو من الكفرة جعلنا لكل نبي من قبلك عدوّاً.

ثم العداوة تكون في الدين مرة، ومرة في الأنفس وأحوالها.

فإن كان العدو عدوا في الدين، فجميع الكفرة له أعداء لخلافهم له في الدين، ويكون حرف (من) صلة، أي: جعلنا لكل نبي المجرمين أعداء.

وإن كان على تحقيق (من) وإثباتها فالعداوة عداوة في الدين والإخوان، وذلك راجع إلى الفراعنة وأضداد الرسل، ما من رسول إلا وله فراعنة وأضداد ينازعونه ويقاتلونه ويهمون قتله.

ثم بشر رسوله بالحفظ له والنصر والظفر على أعدائه، وهو قوله: { وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً }.

وقوله: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً }: ذكر أهل التأويل أن أهل مكة كانوا يأتون رسول الله فيتبعونه ويسألونه ويقولون: يا محمد، أتزعم أنك رسول من عند الله، أفلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة؛ كما أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود فقال: { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ }:

أي: بمثل الذي نثبت به فؤادك.

ثم يحتمل قوله: { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } وجهين:

أحدهما: أنزلناه متفرقاً لنثبته في فؤادك تحفظه وتذكره؛ لأن حفظ الشيء إذا كان سماعه بالتفاريق كان حفظه أهون، وأيسر من حفظه إذا سمع جملة واحدة، وخاصة إذا كان الكلام من أجناس وأنواع.

والثاني: { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } أي: لنثبت بما في القرآن من الحكمة والمعاني فؤادك.

ثم يحتمل قوله: { فُؤَادَكَ } أنه يراد به: فؤاد من يسمع إليه ويسمعه، فإن كان هذا فهو كقوله:وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ... } الآية [الإسراء: 106]، على ما ذكرنا أنه يكون أسرع حفظاً وأهون ثباتاً من سماعه جملة.

وجائز أن يكون أراد فؤاده؛ كقوله:لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [القيامة: 16-17]، وقوله:سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [الأعلى: 6-7] كان يعجل بحفظه إذا قرئ عليه؛ خوفاً أن يذهب، فأخبره أنه يثبت فؤاده وينزله بالتفاريق؛ لكي يحفظه ويذكره.

ثم إن كان المراد تثبيته في الفؤاد: هو ما فيه من الحكمة والمعاني وقراءته على الناس على مكث كذلك فهو - والله أعلم - ينزله على قدر النوازل والحوائج؛ ليكونوا أحفظ لتلك المعاني وأعرف بمواضعها، وتقدير غيرها من النوازل بها من أن نزل جملة في دفعة واحدة، والله أعلم.

السابقالتالي
2