الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

قوله: { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ... } الآية.

اختلف في تأويله: قال بعضهم: إن الرجل الصحيح كان يتحرج من مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض؛ إشفاقاً عليهم ورحمة؛ يقول: إنه لا يبصر طيب الطعام، فلعله يأكل الخبيث وأنا آكل الطيب، ويقول: إن الأعرج لا يستوي جالساً إذا قعد فلا يقدر أن يتناول فيما أتناول أنا، وإن المريض لا يأكل مثل ما يأكل الصحيح.

وكان الرجل لا يأكل من بيت أبيه، ولا من بيت أمه إذا لم يكونا فيه، وكذلك ما ذكر... إلى آخره، حتى يكونوا فيه، وكذلك الصديق وهؤلاء، فأنزل الله هذه الآية في رخصة ذلك كله.

وقال بعضهم: إن هؤلاء الزمنى والعميان والعرجى والمرضى وأولي الحاجة منهم يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ويستضيفونهم، فإن لم يجدوا لهم طعاماً أو شيئاً يأكلونه ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم ومن عدَّد معهم، فكره ذلك المستتبعون التناول من غير بيوت أولئك بلا دعوة ولا إذن سبق منهم؛ فأنزل الله في ذلك إباحة لهم ورخصة، وأحل لهم الطعام حيث وجدوه.

وقال [بعضهم]: إن الأعمى والأعرج والمريض وهؤلاء الذين كانت بهم زمانة كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء؛ مخافة أن يتقذذوا منهم ويستقذروا؛ يقول الأعرج: لا أؤاكل الناس؛ لأني آخذ من المجلس مكان رجلين وأضيق عليهم، وقال الأعمى: إنّي أفسد عليهم طعامهم، وكذلك المريض منهم يقول مثل ذلك؛ فأنزل الله الرخصة في ذلك ورفع عنهم الجناح في مؤاكلتهم، فيقول: إن الحق عليهم أن يرجوكم؛ لما بكم من الزمانة وأن يدعوا لكم بالرفع عنكم، لا التقذذ والاستقذار عنكم.

وقال بعضهم: إن الرجل الغني كان يدخل على الرجل الفقير والزمن فيدعوه إلى طعامه، فيقول: والله إني لأجنح وأحرج أن آكل من طعامك وأنا غني وأنت فقير؛ فأنزل الله في ذلك: { وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ... } إلى آخر الآية.

وقال بعضهم: كان هذا في أهل الجهاد، وأن الرجل كان يخرج إلى الجهاد فيخلف آخر في منزله في حفظ ماله وأهله، والقيام بكفايتهم، فكان يحرج ولا يأكل من ماله شيئاً ولا من طعامه لما لم يسبق منه الإذن في ذلك؛ فأنزل الله في ذلك رخصة إباحة التناول من ذلك.

إلى هذا انتهت أقاويل أهل التأويل وتأويلهم.

والأشبه عندنا أن يكون تأويل الآية في غير ما ذهبوا هم إليه، وهو أن يكون قوله: { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي: ليس على هؤلاء حرج أن يأكلوا من بيوت آبائهم وأمهاتهم، أو بيوت إخوانهم، أو بيوت أخواتهم، أو بيوت أعمامهم إلى قوله: { أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ }؛ لأنهم إنما يأكلون بالحق؛ لأن من كان به زمانة كان له التناول من أموال من ذكر من الآباء والأمهات والقرابات؛ إذ تفرض لهم النفقة في أموالهم؛ فيكون في ذلك دلالة وجوب النفقة لهم في أموالهم، ويكون { وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي: لا بأس أن تأكلوا من بيوتكم، أو ما ملكتم مفاتحه، أو من بيوت صديقكم؛ إذ ليس يباح للرجل التناول من مال نفسه ومن مال صديقه في حال عذر، ولا يباح في حال الصحة والسلامة؛ بل يباح في الأحوال كلها دل أن التأويل الذي ذكرنا أشبه، فيصرف تناول الزمنى في أموال القرابات بحق النفقة والحق، ومن ليس به زمانة في ماله ومال صديقه بحق الملك والصداقة؛ لأن الزمانة ترفع الصداقة من بينهم، وكذلك وجوب النفقة في مال الصديق يرفع الصداقة، ولا يرفع القرابة، ولا تزول صلتها.

السابقالتالي
2 3 4