الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } * { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ }.

جائز أن يكون هذا موصولا بقوله: { نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ }؛ على التقديم والتأخير؛ فكأنه قال: إنما نسارع في الخيرات للذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى آخر ما ذكر لأولئك الكفرة، جائز أن يكون على الابتداء وصف الذين آمنوا ونعتهم، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } ، أي: من عذاب ربهم خائفون.

وقوله: { وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ }.

الإيمان بالآيات يكون إيماناً بالله حقيقة؛ لأن الآيات هنّ الأعلام التي تدل على وحدانية الله وربوبيته، والإيمان هو التصديق، فإذا صدّق آياته، وهن أعلام وأخبار تخبر عن وحدانية الله؛ فإذا صدقها صدق الله وآمن به؛ لذلك قلنا: الإيمان بآياته يكون إيماناً بالله.

وقوله: { وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ }.

أي: لا يشركون غيره في عبادتهم.

وقوله: { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ }.

وفي بعض القراءات: (والذين يأتون ما أتوا)، مقصورة، وهي قراءة عائشة.

فمن قرأ: (والذين يأتون ما أتوا) تأويله، أي: الذين يعملون من عمل وجلت له قلوبهم، أي: يتقبل منهم أم لا؟

ومن قرأ: { يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ } فهو من الإعطاء والإنفاق؛ يقول: والذين يعطون وينفقون ما أنفقوا، وقلوبهم وجلة: أن ذلك يقبل منهم أم لا؟

وفيه دلالة أن المطيع فيما يطيع ربّه يكون على خوف منه كالمسيء في إساءته، وكذلك روي عن عائشة " أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، قالت: " أهم الذين يشربون الخمر، ويسرقون، ويزنون؟ فقال: لا؛ ولكنهم الذين يصومون، ويصلّون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم: { أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ } ".

وجائز أن يكون قوله: { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } لا على ذلك؛ ولكن على ما يذكر، أي: قلوبهم وجلة أنهم يرجعون إلى ربهم: على السعادة أم على الشقاوة؟ والله أعلم.

وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }.

أخبر أن الذين نعتهم ووصفهم هم الذين يسارعون في الخيرات، لا أولئك الكفرة الذين تقدم ذكرهم، { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }: يحتمل، أي: سبقوا أولئك الكفرة بها، والله أعلم.

وقوله: { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }.

جائز أن يكون ذكر هذا وقاله؛ لما عمل أولئك من الأعمال التي لا تسع ولا تحل، وقالوا: الله أمرهم بذلك بقولهم:وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [الأعراف: 28]؛ فقال: { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ، أي: إلا ما يسعها، أي: إلا ما يسعها ويحل؛ كقوله تعالى:إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } [الأعراف: 28]؛ ردا لقولهم، وتكذيباً.

ويحتمل وجهاً آخر، وهو أن يقول: لا نكلف نفساً من الأعمال إلا وسعها، أي: طاقتها، وذلك يحتمل وجهين:

أحدهما: أي: لا نكلف أحداً من الأعمال ما يتلف طاقة وسعة فيه: لا يكلف الغني من الإعطاء ما يتلف به غناه، وكذلك لا يكلف كل حي من العمل ما يتلف به طاقته وحياته؛ ولكنه إنما أمره وكلفه بأمور يحتمل طاقتهم ذلك العمل والأمر؛ فإن كان كذلك؛ فدل ذلك أنه لم يرد به طاقة العمل وقدرته؛ ولكن طاقة الأحوال التي يجوز تقدمها عن الأحوال.

السابقالتالي
2