الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } * { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } * { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }

قوله: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ }.

قال بعضهم: إنما ذكر سلالة؛ لأنه سُلَّ من كل تربة.

وقال أبو عوسجة: السلالة: الخالص من كل شيء، وقوله: { مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } حرّ، أي: من أجود الطين؛ ذكر مرة: { مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } ، ومرة:مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر: 26، 28]، ومرة قال:فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [الحج: 5] ومرة:كَٱلْفَخَّارِ } [الرحمن: 14]، ونحوه، وهو آدم - عليه السلام - وذلك على تغيير الأحوال، والله أعلم بالصواب.

وقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } أي: ثم خلقنا ولده وذريته من نطفة، أخبر [عن] أصل ما خلق آدم منه، وأصل ما خلق ولده منه، وهي النطفة.

وقوله: { فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ }.

قال بعضهم: الرحم.

وجائز أن يكون القرار هو صلب الرجل؛ لأن النطفة لا تخلق في الصلب أوّل ما خلق الإنسان، ولكن تجعل فيه من بعد؛ فيكون الصلب قرارها ومكانها إلى وقت خروجها منه إلى الرحم؛ وعلى ذلك قوله:فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } [الأنعام: 98]: الرحم.

وقال بعضهم: المستقر: الرحم، والمستودع: الصّلب.

وجائز أن يكونا جميعاً واحداً، أيهما كان: الرحم أو الصلب؛ لأن كليهما قرار وما يستودع فيه.

وقال ابن عباس وغيره: السلالة: صفوة الماء.

وقوله: { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } والنطفة هي المعروفة، والعلقة والدم والمضغة: القطعة من اللحم إلى آخر ما ذكر، يخبرهم عن تحويله إياهم وتقليبه من حال إلى حال لوجوه:

أحدها: يخبر عن قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره؛ ليعلموا أن من قدر على إنشاء العلقة من النطفة ما لو اجتمع الخلائق جميعاً على أن يعرفوا سبب خلق هذا عن هذا، مع إحاطة علمهم أن ليس فيها من آثار العلقة شيء - ما قدروا على ذلك، وعلى ذلك جميع ما ذكر من النطفة والمضغة، [و] من العلقة والعظم، [و] من المضغة والإنسان، دل ذلك كله على أنه قادر؛ فمن قدر على هذا يقدر على إنشائهم من الأصل من لا شيء، ويقدر على إحيائهم بعد ما صاروا تراباً، والأعجوبة في خلق الإنسان مما ذكر من النطفة والعلقة والمضغة ليس بدون خلقه إياهم من التراب من الوجوه التي ذكرنا.

وفيه دلالة علمه الذاتي؛ لأن من قدر على تحويلهم من حال إلى حال التي ذكر في الظلمات الثلاث؛ دل أنه عالم بذاته لا بعلم مستفاد من أحد، ولا قوة مكتسبة؛ ولكنه بالعلم الذاتي والقوة الذاتية؛ لأن مَنْ علمُه مستفاد، ومَنْ قوتُهُ مستفادة ومكتسبة لا يبلغ ذلك.

وفيه دلالة تدبيره؛ لخروج الخلق جميعاً وتوالدهم من أول أمرهم إلى آخر ما ينتهون على جري واحد وسنن واحد، على غير تغيير في التوالد والتناسل الذي جعل فيهم، وكذلك جميع ما يخرج من الأرض من النبات والأشجار والأوراق في كل عام، وفي كل سنة يخرج على جرية واحدة وسنن واحد لا يتغير ولا يتفاوت وقت خروجه؛ بل على تقدير واحد وميزان واحد؛ دل أنه على تدبير ذاتٍ خرج، لا على الجزاف، وبالله الحول والقوة.

السابقالتالي
2 3 4