الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } * { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }

قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ }.

في الآية دلالة أن الإيمان هو شيء خاص وشيء واحد، لا اسم جميع الخيرات، وهو التصديق؛ لأنه أثبت لهم اسم الإيمان، ثم أمرهم بالركوع والسجود وفعل الخيرات؛ لأن جميع المخاطبين بهذه الآية عرفوا من خوطب بها، فلو كان اسما لجميع الخيرات لكان لا يعرف المخاطب بها؛ لأنه لا يقدر أحد على جميع الخيرات؛ فدل أنه شيء معروف خاص مما يرجع صاحبه إلى حد المعرفة، حيث عرفه المخاطب به، والله أعلم.

ثم يحتمل قوله: { ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ } وجوهاً:

أحدهما: أن اجعلوا ركوعكم وسجودكم وعبادتكم عبادة الله لا تشركوا فيها غيره على ما أشرك أهل مكة وغيرهم من الكفار في عبادتهم غيره، وهي الأصنام التي عبدوها.

والثاني: اعبدوا ربكم بالأسباب والأشياء التي عرفكم أنها عبادة، وكذلك افعلوا الخيرات التي عرفكم أنها خيرات.

والثالث: أن اجعلوا أحوالكم التي أنتم عليها من قيام وقعود، وحركة وسكون، عبادة لله تعالى، واجعلوا تقلبكم أيضاً للمعاش الذي أبيح لكم وأذن فيه عبادة، فالأول هو عبادة بنفسه التي جعلها الله نصّاً، والثاني هو الذي يصير عبادة بالنية والقصد؛ فيكون في جميع أحواله مؤدي عبادة، وهكذا الواجب على المرء أن يكون في جميع ما يؤدّي من الصلاة والصيام وغيره مؤدي فرض، وهو أن يؤدي جميع ذلك بنية الشكر لنعمه، وتكفيراً لمعاصيه، وكلاهما لازمان واجبان، فإن فعل ذلك كان مؤدي لازم، والله أعلم.

وقوله: { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ظاهره خرج على الترجي، وفي الحقيقة على الوجوب، على ما ذكرنا فيما تقدم.

وقوله: { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } ليس لحق الله غاية يوصل بها، وكذلك قوله:ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102]؛ لأنه لو كان لحقه غاية لكان الرسل والملائكة يقومون بوفاء ذلك [و] يتوهم منهم المجاوزة عن ذلك؛ إذ كل ذي حدّ وغاية يتوهم المجاوزة فيه، فإن لم يحتمل المجاوزة دل أن حقه ليس بذي حدّ وغاية، ويكون تأويل قوله: { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } وحَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102] حقه الذي احتمل وسعكم وبنيتكم وطاقتكم، كقوله:فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] فيكون هذا تفسيراً لقوله: { حَقَّ تُقَاتِهِ } و { حَقَّ جِهَادِهِ }.

ثم يحتمل قوله: { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ } أي: جاهدوا أنفسكم في شهوتها وأمانيها.

أو جاهدوا أعداء الله في دفع الوسواس والمحاربة معهم.

وقوله: { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ } يحتمل وجهين:

أحدهما: { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ } للإيمان والهدى والتوحيد.

أو { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ } جنساً من أفضل الأجناس وأكرمهم من بين سائر الأجناس، كقوله:وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [الإسراء: 70].

وقال عامة أهل التأويل في قوله: { ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } أي: وحدّوا ربكم، جعلوا كل عبادة مذكورة في الكتاب توحيدا؛ فيكون ذكر العبادة هاهنا كقوله:

السابقالتالي
2 3 4