قوله: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ } ، أي: تلا { أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } قيل: في تلاوته، وقراءته الآية. قال عامة [أهل] التأويل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تمنى - أي: تلا في صلاته - أو حدث نفسه، ألقى الشيطان على لسانه عند تلاوته بـ{ وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [النجم: 1]، حتى إذا انتهى إلى قوله:{ أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } [النجم: 19-20] [قال]: " تلك الغرانيق العلا [وإن] شفاعتهن لترتجى ". ويذكرون أنه أتاه على صورة جبريل، فألقى عليه ما ذكروا، ثم أتاه جبريل فأخبره النبي بذلك، فقال له: إنه لم ينزل عليه قط شيئاً مثله. وأمثال ما قالوا. لكنه لو كان ما ذكر هؤلاء كيف عرفه في المرة الثانية أنه جبريل، وأنه ليس بشيطان، ولا يؤمن أنه يلبس عليه في وقت آخر في أمثاله. وقال قتادة: إنّه صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن يذكر الله آلهتهم بعيب، فلما قرأ تلك الآية{ وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ } [النجم: 20] قال: " إنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى عندهم " ، يعني به: عند أولئك الكفرة، وهم على ذلك كانوا يعبدونها. وقال الحسن: إنه أراد بقوله: " تلك الغرانيق العلا و [إن] شفاعتهن لترتجى ": الملائكة؛ لأنهم كانوا يعبدون الملائكة؛ رجاء أن يشفعوا لهم يوم القيامة، فأخبر أن شفاعة الملائكة ترتجى. وهذان التأويلان أشبه من الأوّل. والأشبه - عندنا -: أن يكون على غير هذا الذي قالوا، وهو أن قوله: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } أي: عند تلاوته القرآن في قلوب الكفرة ما يجادلون به رسول الله ويحاجّونه؛ فيشبهون بذلك على الأتباع ليتبعوهم، وهو نحو قولهم: إنه يحرم ما ذبحه الله، ويحل ما ذبح هو بنفسه. ونحو قولهم عند نزول قوله:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98] فقالوا: إن عيسى وعزيراً والملائكة عُبِدوا دون الله فهم حصب جهنم إذن، ونحو صرفهم قوله:{ الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [البقرة: 1-2] إلى حساب الجُمَّل، وأمثال هذا ممّا حاجّوا رسول الله وجادلوه به، فأخبر أنه ينسخ مجادلتهم ومحاجتهم رسوله، وأنّه يُحكم آياته، حيث قال عند قولهم: إنّه يحل ذبح نفسه ويحرم ذبح الله، فبيّن أنه بم حرم هذا؟ وبم حل الآخر؟ وهو قوله:{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [الأنعام: 121] ولكن كلوا ممّا ذكر اسم الله عليه. فبيّن أنّه إنما حلّ هذا بذكر اسم الله عليه، وحرم الآخر بترك ذكر اسم الله عليه.