الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } * { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } * { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ }

قوله - عز وجل -: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ذكر المجادلة في الله، ولم يبين فيم جادلوا؟ وقد كانت مجادلتهم من وجوه:

منهم من جادل في مشيئة الله تبارك وتعالى.

ومنهم من جادل: أن هذا العالم منشأ أم لا؟

ومنهم من جادل في وحدانية الله تعالى: واحد أو عدد؟

ومنهم من جادل في بعث الأنبياء وإرسال الرسل.

ومنهم من جادل في إنزال الكتب.

ومنهم من جادل في دين الله - تعالى - المدعو إليه.

وبمثل هذا قد كثرت مجادلاتهم فيما ذكرنا، وكل ذلك كان مجادلة بغير علم؛ لأنهم لو تفكروا في هذا العالم، ونظروا فيه حق النظر لعرفوا أن لهذا العالم منشئاً، وأنه واحد لا عدد، وأنه عالم قادر بذاته، وأنه بعث الرسل والكتب، وعرفوا أيضاً أنه يبعث هذا العالم ويحييهم، وأنه قادر على ذلك، لكنهم [لم] يتفكروا فيه، ولم ينظروا حق النظر، فجادلوا فيه بغير علم.

وقوله - عز وجل -: { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } يحتمل أن يكون قوله: { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ }: الشيطان المعروف نفسه، يتابعه في كل ما يدعوه.

وجائز أن يكون أراد أنه يتبع كل من يعمل عمل الشيطان، وهم القادة الذين كانوا يدعون إلى اتباع ما يدعو الشيطان ويوحي إليهموَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ } [الأنعام: 121]، أخبر أن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوكم، فذلك معنى قوله: { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } قيل: فعيل بمعنى فاعل، على ما ذكر في آية أخرى:مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [الصافات: 7] قال بعضهم: كل متمرد في العناد والمكابرة، فهو مارد.

وقال بعضهم: المارد: هو المجاوز عن جنسه في عتوه وتمرده؛ ولذلك سمي الذي لا لحية له: أمرد؛ لخروجه ومجاوزة أجناسه ورجاله، والمارد بالفارسية: ستنبه.

وقوله - عز وجل -: { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } قال بعضهم: كتب على الشيطان أن من تولاه واتبعه أن يضله { وَيَهْدِيهِ } أي: يدعوه { إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } ، وهو ما قال في آية أخرى:أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [لقمان: 21].

وقال بعضهم: كتب على من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله، أي: يدعوه إلى ما به ضلاله وهلاكه.

وقوله: قيل: حكم.

وقيل: قضى.

و { كُتِبَ } يحتمل الإثبات، أي: أثبت في أم الكتاب: أن من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله، وقد ذكر إضلال الشيطان في غير موضع.

وقوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي: خلقنا أصلكم من تراب، وخلقنا أولاده من نطفة { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ... } الآية.

تأويله - والله أعلم -: أن كيف تشكون في البعث وتنكرونه وليس سبب إنكاركم البعث إلا أن تصيروا تراباً أو ماء في العاقبة، وقد كنتم في مبادئ أحوالكم تراباً وماء، فكيف أنكرتم بعثكم إذا صرتم تراباً؟

أو أن يكون معناه: أن كيف أنكرتم البعث وقد رأيتم أنه يقلبكم من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن العلقة إلى المضغة، ولا يقلب من حال إلى حال بلا عاقبة تقصد، فلو لم يكن بعث - كما تزعمون - لكان خلقكم وتقليبكم من حال إلى حال عبثاً؛ على ما أخبر: أن خلق الخلق لا للرجوع إليه عبث، كقوله؛

السابقالتالي
2 3 4