الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } * { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } * { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } * { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ }.

يعني: التوراة، وهو ظاهر.

وقوله: { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ }.

وقيل: وقفينا: أَرْدَفْنَا، وهو من القفا، قفا يقفو.

وقيل: أَتبعنا رسولاً على أَثر رسول؛ كقوله:فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } [المؤمنون: 44] واحداً على أَثر واحدٍ.

وقوله: { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ }.

قيل: البينات: الحجج.

وقيل: العجائب التي كانت تجري على يديه، من خلق الطين، وإحياء الموتى، وإِبراءِ الأكمه والأَبرص، وإِنباءِ ما يأْكلون وما يدخرون.

وقيل: البينات: الحلال والحرام.

ثم الرسل في أَنفسهم حفظوا حججاً؛ فلم يحتج كل قول يقولون إلى أن يكون مصحوباً بدليل وبيانٍ على صدقهم؛ لأَنهم في أَنفسهم حجة.

وأما سائر الناس فليسوا بحجج في أَنفسهم، فلا بد لكل قول يقولون أَن يأْتوا بدليلٍ يدل على صدقهم، وبيانٍ يُظهر الحقَّ من الباطل، والصوابَ من الخطأ، والصدقَ من الكذب. وبالله التوفيق.

وقوله: { وَأَيَّدْنَاهُ }: قويناه.

{ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ }.

اختلف فيه:

قيل: روح القدس: جبريل.

وفي الأَصل: القدوس، لكن طرحت الواو للتخفيف.

وتأْييدُه: هو أَن عصمه على حفظه؛ حتى لم يدن منه شيطان، فضلاً أَن يدنو بشيء، والله أعلم.

وقيل: { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } يعني بالروح: روح الله.

ووجه إضافةِ روح عيسى إلى الله - عز وجل -: أَن تكون أضيفت تعظيماً له وتفضيلاً، وذلك أن كل خاص أُضيف إلى الله - عز وجل - أُضيف؛ تعظيماً لذلك الشيء، وتفضيلاً له، كما يقال لموسى: كليم الله، ولعيسى: روحُ الله، ولإبراهيم: خليلُ الله، على التعظيم والتفضيل.

وإذا أُضيف الجُمَل إلى الله - عز وجل - فإنما تضاف؛ تعظيماً له - عز وجل - وتنزيهاً؛ كقوله:رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الرعد: 16] أُضيف ذلك إليه؛ تعظيماً وتنزيهاً، والله الموفق.

والأَصل في ذلك: أَن خاصية الأَشياءِ إذا أُضيف ذلك إليه أضيف تعظيماً لتلك الخاصية. وإذا أُضيف جمل الأَشياء إلى الله، فهو يخرج على تعظيم الرب والتبجيل له.

وقوله: { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }.

في ظاهر هذه الآية أَنهم كذبوا فريقاً من الرسل، وقَتلوا فريقاً منهم.

ويقول بعض الناس: إنهم قتلوا الأَنبياءَ ولم يقتلوا الرسل؛ لقوله:إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر: 51]، ولقوله:إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [الصافات: 172] أَخبر أَنه ينصرهم، ومن كان الله ناصره فهو لا يقتل.

ومنهم من يقول: إنهم قتلوا الرسل والأنبياء.

فنقول: يحتمل قوله: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } في رسول دون رسول، فمن نصره الله فهو لم يقتل. أَو كان ما ذكر من النُّصرة لهم كان بالحجج والآيات.

ثم في الآية دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته؛ لأَنه أَخبرهم بتكذيب بعض الرسل، وقتل بعضهم، فسكتوا عن ذلك، فلولا أَنهم عرفوا أنه رسول - عرف ذلك بالله - وإلا لم يسكتوا عن ذلك.

السابقالتالي
2 3