الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } * { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ }.

قد ذكرنا فيما تقدم: أَن ميثاق الله، وعهده على وجهين: عهد خلقه وفطرة، وعهد رسالة ونبوةٍ.

وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } في التوراة أَن يعملوا بما فيها، فنقضوا ذلك العهد لما رأَوا فيها الحدود، والأَحكام، والشرائع كرهوا؛ فرفع الله الجبل فوقهم، فقبلوا ذلك.

ويحتمل ما ذكرنا من عهد خلقة وفطرة فنقضوا ذلك.

وقوله: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ }.

قيل: خذوا التوراة بالجد والمواظبة.

وقيل: " بقوة " يعني: بالطاعة له والخضوع.

ثم احتج بعض المعتزلة بهذه الآية على تقدم القدرة الفعلَ؛ لأَنه أمرهم - عز وجل - بالقبول له، والأَخذ والعمل بما فيها.

فلو لم يعطهم قوة الأَخذ والقبول له قبل الأَخذ له والفعل، لكان لا يأْمرهم بذلك؛ لأَنهم يقولون: لا قوة لنا على ذلك؛ فدل أَنه قد أعطاهم قبل ذلك، لكنه غلط عندنا؛ لأَنه لو كان أَعطاهم القوة قبل الفعل، ووقت الأَمر به، ثم تذهب عنهم تلك القوة وقت الفعل - لكان الفعل بلا قوة؛ إذ من قولهم: أن القوة لا تبقى وقتين؛ فدل: أَنها تحدث بحدوث الفعل، لا يتقدم ولا يتأَخر، ولكن يَكونان معاً.

ولأَنها سميت: قدرة الفعل، فلو كانت تتقدم الفعل، لم يكن لإضافة الفعل إليها معنى، والله أعلم.

والأَصل في ذلك: أَن الله - تعالى - قال: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ } ومعلوم أَن المرادَ من ذلك الأَخذُ بقوة الآخذ.

ثم فيه وجهان:

أَحدهما: أَن للأَخذ قوة غير التي للترك.

والثاني: أَنه ذكر الأَخذ بقوة، فإذا لم تكن معه لم يكن بها أَن يرى أَن الوقت إذا تباعد لم يحتمل بما تقدم من القوة أَوقاتاً؛ فمثله وقت واحد.

وقوله: { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.

قيل فيه بوجوه:

قيل: اذكروا، واحفظوا ما فيه من أَمره ونهيه، ولا تضيعوه؛ لعلكم تتقون المعاصي والمآثم.

ويحتمل: اذكروا ما فيه من التوحيد والإيمان؛ لعلكم تتقون الشرك والكفر.

ويحتمل: اذكروا ما فيه من الأَحكام والشرائع.

ويحتمل: الثواب والعقاب، والوعد والوعيد. وكله واحد.

وقوله: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ }.

يعني: من بعد القبول.

دل هذا على: أَنهم كانوا قَبِلوا ذلك مرة، قبل أَن يأْتيهم موسى صلى الله عليه وسلم بها؛ فلما أَتاهم - ورأَوا التشديد، والمشقة - أَبوا قبولها، وتركوا العمل بما فيها من الأَحكام والشرائع؛ فخُوِّفُوا برفع الجبل فوقهم؛ فقبلوا ذلك، والله أعلم.

وقوله: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ }.

يحتمل وجوهاً:

قيل: فضل الله عليكم الإسلام ورحمته: القرآن.

وقيل: فضل الله عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، بعث إليكم رسولاً؛ ليجمعكم، ويؤلف بينكم، ويدعوكم إلى دين الله الحق، بعد ما كنتم في فترة من الرسل، وانقطاع من الدين والعمل.

السابقالتالي
2 3