الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } * { ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } * { وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }

قوله عز وجل: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ }.

وقيل: ظلمتم أَنفسكم باتخاذكم العجل إلهاً.

وقوله عز وجل: { فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ }.

قيل: ارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة ربكم.

وقيل: ارجعوا عن اتخاذ العجل إلهاً إلى اتخاذ خالقكم إلهاً.

وقوله عز وجل: { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ }.

قال الفقيه أَبو منصور - رحمه الله -: لولا اجتماع أَهل التأْويل والتفسير على صرف ما أَمر الله - جل وعز - إياهم بقتل أَنفسهم على حقيقته، وإلا لم نكن نصرف الأَمر بقتل أَنفسهم على حقيقة القتل؛ وذلك لأَن الأَمر بالقتل كان بعد التوبة، ورجوعهم إلى عبادة الله، والطاعة له، والخضوع.

دليله قوله عز وجل: -وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 149]. ظهر بهذا: أَنهم تابوا قبل أَن يؤمروا بالقتل.

وقد شرع على أَلسن الرسل: قتال الكفرة حتى يسلموا؛ فلا يجوز ذلك إِنْ أَسلموا، فيحصل الإرسال للقتل خاصة، لا للدين، والله أعلم.

ولأَن القتل هو عقوبة الكفر، لا عقوبة الإسلام، وخاصة قتل استئصال، على ما روي في الخبر: أَنْ قتل سبعون أَلفاً في يوم واحد.

وذلك استئصال وإهلاك، ولم يهلك الله قوماً إلا في حال الكفر والعناد؛ إذ الإسلام سبب درء القتل وإسقاطه؛ لأَن من يقتل لكفره إذا أَسلم سقط القتل عنه وزال، وكذلك إذا أَسلم وتاب ومات عليه، لم يعاقب في الآخرة لكفره في الدنيا.

فعلى ذلك: يجب ألا يعاقب هؤلاءِ في الدنيا - بالقتل - بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله وطاعته.

ويصرف الأَمر بالقتل، إلى إجهاد أَنفسهم بالعبادة لله، والطاعة له، واحتمال الشدائد والمشقة؛ لتفريطهم في عصيان ربهم، باتخاذهم العجل إلهاً، وبعبادتهم إياه دون الله.

وذلك جار في الناس، يقال: فلان يقتل نفسه في كذا، لا يعنون حقيقة القتل، ولكن: إجهاده نفسه في ذلك، وإتعابه إياها، واحتمال الشدائد والمشقة فيه.

فعلى ذلك، يصرف الأَمر بقتل أَنفسهم إلى ما ذكر، بالمعنى الذي وصفنا، والله أعلم.

ثم صرْف ذلك إلى حقيقة القتل احتمل وجهين:

أَحدهما: أَن يجعل ذلك ابتداءَ محنة من الله - تعالى - لهم بالقتل، لا عقوبة لما سبق من العصيان.

ولله أَن يمتحنهم - ابتداء - بقتل أَنفسهم؛ كقوله:وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ } الآية: [النساء: 66] على تأْويل كثير من المتأَولين في ذلك؛ إذْ لَه أَنْ يميتهم بجميع أَنواع الإِماتة.

فعلى ذلك: له أَن يأْمر بقتل أَنفسهم، وفيه إماتة، مع ما فيه الاستسلام لعظيم ما دعوا إليه، من بذل النفس لله، مما في مثله جعل وفاءِ إبراهيم الأَمر بالذبح، وبذل ولده النفس له.

السابقالتالي
2 3 4 5 6