الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } * { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }.

كأن هذا - والله أعلم - يخرج جواباً على أثر قول قاله الكفرةُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم - على ما ذكره بعض أَهل التأْويل - فقالوا: ما يستحي ربك أَن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر في نفسه، وملوكُ الأَرض لا يذكرون ذلك، ويستحيون؟

فقال عز وجل جواباً لقولهم: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى... } الآية.

لأَن ملوك الأَرض إنما ينظرون إلى هذه الأَشياءِ بالاسحقار لها، والاستذلال؛ فيستحيون ذكرها على الإنكاف، والأَنَفَة.

والله - عز وجل - لا يستحيى عن ذلك؛ لأَن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الجثة والجسم، أَكبر من الكبارِ منها والعظام؛ لأَن الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب، وتركيب ما يحتاج إليه من الفم والأَنف والرجل واليد والمدخل والمخرج - ما قَدروا، ولعلهم يقدرون على ذلك في العظام من الأَجسام والكبار منها.

فأُولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة، ولكن نظروا للحقارة، والخساسة أنفاً منهم وإِنكافاً.

ثم اختلف أَهل الكلام في إضافة الحياءِ إِلى الله تعالى:

فقال قوم: يجوز ذلك بما رُوي في الخبر: " أَن الله يستحيى أَن يعذب من شاب فى الإسلام " ولأنه يجوز كالتكبر، والاستهزاءِ، والمخادعة، وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم. وقال آخرون: لا يجوز إضافته إلى الله تعالى؛ لأَن تحته الإِنكاف والأَنفه، وذلك عن الله تعالى مَنْفِيٌّ، ولكن الحياء هو الرضاء هاهنا، والحياء الترك؛ أَي: لا يترك ولا يدع.

وقوله: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ }.

أي: علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار الأَجسام والجثة حق؛ لما نظروا إلى ما فيها من الأُعجوبة والحكمة واللطافة.

وقوله: { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً }.

لم ينظروا فيها لما فيها من الأُعجوبة والحكمة، ولكن نظروا للخساسة والحقارة.

وقوله: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً }.

الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأَنه جواب قولهم: { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } فقال: أَرَاد أَن يضل بهذا المثل كثيراً، وأَراد أن يهدي به كثيراً، أَضل به من علم منه أَنه يختار الضلالة، ويهدي به من علم أَنه يختار الهدى، أراد من كل ما علم منه أَنه يختار ويُؤثر، والله أَعلم.

وهم يقولون: بل أَراد أن يهدي به الكلَّ ولكنهم لم يهتدوا.

والثاني: يُضلُّ به كثيراً؛ أَي: خَلَقَ فِعْلَ الضلالة من الضال، وخلقَ فعل الاهتداءِ من المُهتدِي. وقد ذكرنا فيما تقدم.

وقوله: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ }.

أي: ما يُضِل بهذا المثَل إلا الفاسق الذي لا ينظر إلى ما فيها من الأُعجوبة واللطافة في الدلالة.

السابقالتالي
2 3 4