الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } * { وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قوله: { أَلَمْ تَرَ } ، حرف تعجب وتنبيه، ليتأمل فيما يلقى إليه مما أريد الإنباء عنه، أو فيما قد كان سبق الإنباء عنه، ليتجدد بالنظر فيه عهداً. وعلى ذلك المعروف من استعمال هذه الكلمة، وكذلك وجه تأويله إلى الخبر مرة وإلى العلم به ثانية، وإلى النظر فيه ثالثاً، على اختلاف ما قيل. وفيه كل ذلك. والله تعالى أعلم.

قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } ، " ألم تخبر " ، و " ألم تنظر " ، ومثل هذا إنما يقال عن أعجوبة.

فالقصد فيه - والله تعالى أعلم - أنه جواب قوله:لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [آل عمران: 156]، أخبرهم الله عز وجل عن قصة هؤلاء: أن جهلهم بآجال أولئك حملهم على هذا القول؛ مثل جهل بني إسرائيل بآجالهم حملهم على الخروج من ديارهم حذر الموت، ثم لم ينفعهم ذلك بل أميتوا. كذلك هذا.

ثم اختلف في قصة هذه:-

قال بعضهم: أخرجوا فراراً من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله، ثم أحياهم، وأمرهم أن يخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله.

وقال آخرون: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقى أناس، فمن خرج أكبر ممن بقى، فنجا الخارجون، وهلك الباقون، فلما كانت الثانية خرجوا بأجمعهم إلا قليلاً، فأماتهم الله، ثم أحياهم.

فلا تدري كيف كانت القصة. فإن كانت القصة في الفرار من الجهاد في سيل الله، وله نظير في الآيات، قوله تعالى:قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ } [آل عمران: 154]، وقوله:قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } [الأحزاب: 16]، وقوله:قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [الجمعة: 8]، وقوله:أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 78]، ومثله كثير في القرآن.

وإن كانت القصة في الطاعون، فقد جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إذا كنتم في أرض وفيها وباء فلا تخرجوا فراراً منها ". [وإذا لم تكونوا فيها فلا تدخلوها " ومعناه والله أعلم: أنهم إذا كانوا فيها يخرجوا مخرج الفرار إن تحولوا،] أو أن الفرار أنجاهم إن لم يكونوا فيها فدخلوا فأصابهم فأماتهم الله، يظنون أنهم إذا لم يكونوا فيها لم يصبهم ذلك. ففي الوجهين سيان القضاء. وقد جاء: " أن لا دعوى ولا هامة ".

فإن قيل: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا مر على حائط مائل أسرع المشي، كيف نهى عن الخروج عن أرض فيها وباء وطاعون؟

قيل: إن كل ما كان مخرجه مخرج آية وفيها إهلاكهم فذلك لا يكون إلا بأمر سبق منهم، فحق مثله الفرار إلى الله، لا إلى غيره.

السابقالتالي
2 3 4