الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

قيل: نزلت الآية في جيشين من العرب، كان وقع بينهما حرب وقتال، وكان لإحداهما فضل وشرف على الأخرى. فأرادوا بالعبد منهم الحر من أولئك، وبالأنثى منهم الذكر. فأنزل الله تعالى: { ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ }. وهي منسوخة؛ لأن فيها قتل غير القاتل. نسخها قوله:وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [الإسراء: 33].

قيل: لا تسرف ولا تقتل غير قاتل وليك.

وقيل: لا تسرف، أي: لا تمثل في القتل.

وقيل: لا تسرف في القتل، أي: لا تقتل أنت إذ هو منصور.

فثبت بهذا نسخها؛ إذ لم يؤذن بقتل غير القاتل.

وقوله أيضاً:وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [المائدة: 45]، ولا يحتمل نفس غير القاتل يقتل بنفس. دليله قوله:فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } [المائدة: 45]، ولا يتصدق على غير القاتل. ثبت أنها منسوخة بما ذكرنا.

وفي الثاني: قال الله تعالى: { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ } [البقرة: 179]، لما إذا همّ بقتل آخر يذكر قتل نفسه، فيرتدع عن قتله، فيحيا به النفسان جميعاً، فلو لزم قتل غير القاتل لم يكن فيه حياة، إذ لا يخشى تلف نفسه.

ثم هذا يدل على وجوب القصاص بين الحر والعبد، وبين الكافر والمسلم، إذ لو لم يجعل بينهما قصاص لم يرتدع أحد عن قتلهم، إذ لا يخشى تلف نفسه بهم. فدل أنهم يقتلون بهم. والله أعلم.

هذا فيما يجعل الآية ابتداء، لا في الحيين، اللذين ذكرا به.

ثم يقال: ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم فيه وجعله شرطاً ونفيه في غير شكله. دليله ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " ثم إذا زنى البكر بالثيب وجب ذلك الحكم، فدل أن ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص في الحكم، [ولكن فيه إيجاب الحكم] في كل شكل إذا ارتكب ذلك وهو أن يقتل الحر إذا قتل آخر. والحرية لا تمنع الاقتصاص لفضله. وكذلك العبد إذا قتل آخر يقتل به، والرق لا يمنع ذلك للذلِّ الذي فيه.

وكذلك الأنثى تقتل إذا قتلت أخرى، ولا يمنع ما فيها من الضعف في وجوب القصاص. وبالله التوفيق.

وله وجه آخر: وهو أنه قال: { وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ }. ومن الإناث إماء، وقد أمر بالاقتصاص بينهن، فلئن وجب تخصيص ما ذكر خاصًّا، وجب أن يذكر عامّاً ما ذكر فيه العموم.

فإن قيل: على عموم الاسم في أحدهما، وخصوص القول في الآخر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6