قوله: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ }. ثم اختلف في الملة؛ قيل: الملة: الدين. وقيل: الملة السنة. وقيل: الإسلام. وكله واحد. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقوله: { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }. بما يعمل من عمل السفه. ويحتمل: { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } أي بنفسه؛ فكان انتصابه لانتزاع حرف الخافض. وقيل: جهل نفسه فيضعها في غير موضعها. وقوله: { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا }. بالنبوة والرسالة والعصمة. ويحتمل: ما جزاهم في الدنيا بثناء حسن لم ينقص من جزائهم في الآخرة. وقوله: { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }. فى المنزلة والثواب. ويحتمل: { لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }: لمن المرسلين. ويحتمل: أَن يكون بشِّره في الدنيا؛ أَنه كان من الصالحين في الآخرة؛ فيكون - في ذلك - وعدٌ له بصلاح الخاتمة، كما وعد محمداً صلى الله عليه وسلم مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأَخر. وفي ذلك أيضاً: وعد بصلاح الخاتمة - والله أعلم - فأَخبر بما كان بشَّره. ويجوز: تفاضُلهم في الآخرة، على ما كانوا عليه. وقوله: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. قيل: أَخْلِصْ. ويحتمل: أَن يكون أَمراً بابتداءِ إِسلام، على ما ذكرنا من تجدده في كل وقت يهمد. ثم يحتمل: أَن يكون وحياً أوحى إليه، أَن قل كذا، فقال به. فإِن كان وحياً فهو على أَن يُسلم نفسه لله. ويحتمل: أَن يكون إِسلام القلب - بتغاضي الخلقة بالإسلام - فإن كان على هذا؛ فهو على الإسلام دون توحيده. ويحتمل: أَن يكون إٍسلام خِلقة؛ كقوله:{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172]، بالخلْقة. وعلى ذلك يخرج قوله لإبراهيم:{ وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } [الحج: 27]؛ فدعاهم، فأَجابوه في أَصلاب آبائهم إِجابة الخِلقة وقت كونهم. وقيل: يحتمل: أَن يكون أَمر بابتداءِ الإسلام، كقوله:{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً... } [الأنعام: 76] إلى آخره. ثم قال:{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً } [الأنعام: 79] يكون جواب قوله: { أَسْلِمْ } والله أعلم. وقوله: { وَوَصَّىٰ بِهَآ }. يعني بالملة. والملةُ تحتمل ما ذكرنا. وقوله { وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ }. وهو الإسلام؛ ردّاً على قول أولئك الكفرة: إِن إبراهيم كان على دينهم؛ لأَن اليهود زعمت أَنه كان على دينهم يهوديّاً. وقالت النصارى: بل كان على النصرانية. وعلى ذلك قالوا لغيرهم:{ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ } [البقرة: 135]. فلما ادَّعى كلُّ واحد من الفريقين: أَنه كان على دينهم، أَكذبهم الله - عز وجل - في قولهم، ورد عليهم في ذلك فقال: قل يا محمد:{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً } [آل عمران: 67]؛ فعلى ذلك قوله: { ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ }.