الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } * { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }

قوله - عز وجل -: { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ }.

اختلف أهل التأويل في ضرب هذا المثل:

قال بعضهم: ضرب هذا لمشركي العرب؛ لأنهم ينكرون فناء الدنيا وهلاكها؛ لأنها لا تبيد أبداً، فيقول: إن الذي يعاينون من فناء ما ذكر من النبات وغيره وهلاكه - هو جزء منها؛ فإذا احتمل جزء منها الفناء والهلاك؛ فعلى ذلك الكل.

وقال بعضهم: وجه ضرب هذا المثل، وهو أن أهل الدنيا وطلابها إذا ظفروا بالدنيا وطمعوا الانتفاع بها والاستمتاع بها، كما طمع الزراع الظفر بذلك الزرع، والوصول إلى الانتفاع به، ثم حيل بينهم وبين الانتفاع بالزرع والوصول إلى مقصودهم فعلى ذلك الدنيا يحال بين أهلها وطالبيها وبنيها.

وقال بعضهم: وجه ضرب مثل الدنيا بما ذكر من النبات - للتزيين والتحسين لأهلها والتعجيب لهم؛ لأنها تتزين وتحسن لأهلها كالنبات الذي ذكر أنه يعجب أهلها ويتزين لهم ثم يفسد ويصير مواتا؛ فعلى ذلك الدنيا، وهو ما ذكر في آية آخرى:كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ... } [الحديد: 20] الآية: هكذا وما فيها كله مشوب بالآفات والفساد.

في هذا المثل وجوه من الحكمة والدلالة.

أحدهما: العظة والاعتبار للمتفكرين والمعتبرين، والحجة على المعنادين والمكابرين: في إنكارهم حدث العالم ومحدثه، وإنكارهم فناء العالم، وإنكارهم البعث.

أمّا حدث العالم؛ لما عاينوا حدوث أشياء منه واحدا بعد واحد؛ فعلى ذلك الكل، وأراهم أيضاً فناء أشياء منها حتى لم يبق لها أثر، ثم حدث مثلها، فإذا ظهر هذا في بعض منها؛ فكذلك الكل؛ فإذا ظهر حدوثه وفناؤه لا بد من قاصد يحدثها.

وفيه دلالة البعث بما أراهم [أنه] يجدد ويحدث هذه الأنزال والأشجار والنبات وغيره والعود على ما كان بعد فنائه؛ فعلى ذلك إعادة العالم الذي هو المقصود في إنشاء تلك الأشياء، وذلك أولى بالإعادة من غيرهم من الأشياء؛ إذ هم المقصودون في خلق غيرهم من الأشياء.

وبعد، فإنهم قد اتفقوا على أن خلق الشيء وفناءه للهلاك خاصّة من غير مقصود وعاقبة - عبث ليس بحكمة، فلو لم يكن بعث ولا إعادة لم يكن في خلقه إياهم حكمة؛ لأنه يحصل خلقه للفناء والهلاك خاصّة.

وفي قوله: { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ... } الآية دلالة علمه وتدبيره وقدرته؛ لأنه أخبر أنه ينزل من السماء ماء يختلط به نبات الأرض، والماء من طبعه إفساد النبات إذا اختلط به فإذا لم يفسده ولكن أحياه بالاختلاط - دل أن في الماء معنى به يحيا النبات لا يعلم ذلك غيره، دل أنه عالم بذاته.

والتدبير هو ما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما؛ دل أن ذلك كان بواحد عليم مدبر قادر بذاته.

السابقالتالي
2 3