الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } * { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } * { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً }

قوله - عزّ وجلّ -: { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ }.

أي: من اهتدى إلى ما جعل الله عليه من أنواع النعم، وقام بأداء شكرها فإنما فعل ذلك لنفسه؛ لأنه هو المنتفع به.

أو يقول: من اختار الهدى وأجابه إلى ما دعاه مولاه فإنّما يهتدي لنفسه، أي: فإنّما اختار ذلك لنفسه؛ لأنه هو المنتفع به وهو الساعي في فكاك رقبته.

وقوله - عزّ وجلّ -: { وَمَن ضَلَّ }.

أي: من ضلّ، أي: من اختار الضلال { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ، أي: فإنما يرجع عليها ضرره، وهو ما ذكر:مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46].

وقوله: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا }.

وقوله: { وَمَن ضَلَّ } عن ذلك { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا }.

أي: إلى نفسه يرجع ضرر ضلاله على نفسه؛ كقوله:وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } [النمل: 40].

وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }.

هو ما ذكرنا، أي: لا تحمل نفسٌ خطيئةَ أخرى، ولا تأثم بوزر أخرى، والله أعلم؛ ذكر هذا ليعلم أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يؤخذ نفس مكان أخرى، ويحتمل نفس مؤمنة أخرى، وفي الآخرة لا تؤخذ [نفس] بدل أخرى.

والثاني: قد يتبرع بعض عن بعض بتحمل المؤُنات والقيام في فكاكها، وأمّا في الآخرة فلا يتبرع بذلك.

وقوله - عز وجلّ -: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }.

يحتمل: ما كنا معذِّبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه - ودفعها عن الحجج - من كل وجه، وبعد تمامها، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث الرسل؛ ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه، أو أن يكون قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } إفضالاً منه ورحمة، وإن كان العذاب قد يلزمهم، والحجة قد قامت عليهم، والعذاب الذي كانوا [يعذبونهم في] الدنيا ليس هو عذاب الكفر؛ لأن عذاب الكفر دائم أبداً لا انقطاع له، وهذا مما ينقطع وينفصل، لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات، وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبداً لا ينقطع.

وفي الآية دلالة أن حجة التوحيد قد لزمتهم وقامت عليهم بالعقل، حيث قال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }؛ فلو لم تلزمهم لكان الرسل إذا دعوهم إلى ذلك يقولون: من أنتم ومن بعثكم إلينا؟ فإذا لم يكن لهم هذا الاحتجاج دل أن الحجة قد قامت عليهم، لكن الله بفضله أراد أن يدفع الشبه عنهم ويقطع عنهم عذرهم برسول يبعث إليهم؛ لما أن أسباب العلم بالأمور ثلاثة:

فمنها ما يعلم بظاهر الحواس بالبديهة، ومنها ما يفهم [ويعلم] بالتأمل والنظر، ومنها ما لا يعلم إلا بالتعليم والتنبيه.

السابقالتالي
2 3