الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

قوله - عزّ وجلّ -: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً }.

قال عبد الله بن مسعود: الأمة: الذي يعلم الناس الخير، والقانت: المطيع لله.

وقال بعضهم: أمة قانتاً، أي: مؤمناً وحده والناس كلهم كفار.

وقال بعضهم: كان أمة، أي: إماماً يقتدى به [في كل خير؛ كقوله:إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [البقرة: 124].

وقال الحسن: كان أمة، أي سنة يقتدى به].

ويحتمل أن يكون سماه: أمّة، لما كان كالأمّة والجماعة من القيام مع الأعداء؛ لأنه، وإن كان منفرداً وحده، فكان قيامه مع الأعداء والأكابر منهم كالجماعة والأمة، والممتنع عنهم كالمتفرد. وأصل الأمة؛ قيل: الجماعة والعدد.

ويحتمل قوله: { إِكَانَ أُمَّةً } ، أي: مجمع كل خير وكل طاعة؛ لما عمل هو من الخير عمل الجماعة، واجتمع فيه كل خير؛ فسميّ أمّة لهذا الذي ذكرنا، أو أن يكون تفسير الأمة ما ذكر على أثره: { قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } ، والقانت، قيل: المطيع، والقنوت [هو القيام] - كما ذكر - " أنه سئل عن أفضل الصلاة؛ فقال: " طولُ القُنُوتِ " ؛ أي: طول القيام؛ فعلى هذا: المعنى: هو القائم لله في كل ما يعبده وأمره به.

وقيل: { أُمَّةً } ، أي: ديناً؛ لقوله:إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الأنبياء: 92]، اي: دينكم ديناً واحداً.

وقوله - عز وجل -: { حَنِيفاً }.

قيل: الحاج، وقيل: الحنيف: المسلم، وقيل: المخلص، وفيه كل ذلك: كان حاجّاً مسلماً مخلصاً لله، وأصل الحنف: الميل، أي: كان مائلاً إلى أمر الله وما يعبده به، والله أعلم.

وقوله - عزّ وجلّ -: { وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }.

لا شك أنه لم يكن من المشركين، لكنه ذكر هذين الوجهين.

أحدهما: لما ادعى كل أهل الأديان أنهم على دينه وانتسب كل فرقة إليه فبرّأه الله من ذلك، وأخبر أنه ليس على ما هم عليه من الدين؛ وهو ما قال:مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً... } الآية [آل عمران: 67].

والثاني: ذكر هذا: أنه لم يكن من المشركين بقوله:هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 77]؛ لأنه هو كان ذلك عنه على ظاهر ما نطق: كان ذلك في الظاهر إشراكاً، ففيه مشبه في ظاهره؛ فبرأه الله عن ذلك وأخبر أن ذلك منه لم يكن إشراكاً، ولكن على المحاجة خرج ذلك منه محاجة قومه؛ لقوله:وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } [الأنعام: 83]، والله أعلم.

وقوْله - عز وجل -: { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ }.

أي: لم يصرف شكر نعمه إلى غير المنعم، بل صرف شكرها إلى منعمها، والشكر في الشاهد هو المكافأة، ولا يبلغ أحد من الخلائق في المرتبة التي يكافئ الله في أصغر نعمة أنعمها عليه، ولا يتفرغ أحد عن أداء ما عليه من إحسان الله عليه فضلاً أن يتفرغ لمكافأته؛ لكن الله - عز وجل - بفضله ومنّه سمىّ ذلك شكراً، وإن لم يكن في الحقيقة شكراً؛ كما ذكر الصدقة التي تصدّق بها العبد إقراضاً كما سمى تسليمه لنفسه وبذله الأمر لله - شراء، وإن كانت أنفسهُم وأموالهم في الحقيقة - له، ولا يطلب المرء في العرف القرض من عبده، وكذلك شراء؛ لكنّه بلطفه [وفضله] عامل عباده معاملة من لا ملك له في أنفسهم وأموالهم؛ فعلى ذلك في تسمية الشكر؛ والله أعلم.

السابقالتالي
2 3