الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } * { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }

قوله - عزّ وجلّ -: { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ }.

قوله: { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } يحتمل وجهين - حيث ذكر من كفر بالله -:

أحدهما: كفر بالله في زعم المكره؛ لأنه أكرهه به ففي زعمه كافر بالله؛ لطلبه ذلك منه، وهو كقوله:فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } [الصافات: 91]: في زعمهم؛ لأنهم لم يكونوا آلهة، وكقوله:وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ } [طه: 97]: سماه إلهاً؛ لأنه - في زعم السامري - إله.

والثاني: من كفر بالله شارحاً صدره بالكفر - هو الكافر به حقّاً، وأما من أظهر الكفر بلسانه بالإكراه، وقلبه معتقد بالإيمان على ما كان مطمئنّاً به - فهو ليس بكافر. وأصله: أن من اعتقد مذهباً [أو ديناً] أن يعتقده بخصال ثلاث:

إحداها: يقلد آخر؛ لما رآه أبصرَ وآخذ وأعلم فيه، وهو لا يبلغ ذلك، فيقلده؛ لفضل بصره وعلمه فيه ورأيه.

والثانية: يعتقد للشبهة؛ لما يتراءى عنده أنه الحق؛ فيعتقده لذلك للشبهة التي ذكرنا.

والثالثة: [يعتقد لما] يتضح له الحق فيعتقده.

فلهذه الوجوه الثلاثة يعتقد من يعتقد ديناً أو مذهباً، فأما أن يعتقد الإنسان مذهباً مجانا على الجزاف فلا؛ فكأن إظهار كفر هذا لإكراه من أكرهه لم يصر كافراً.

وأصله أن الإيمان والكفر إنما يكونان بالاختيار؛ فإن الإكراه يزيل اختيار من كفر؛ لذلك يبقى على الإيمان على ما كان؛ لما لم يوجد منه اختيار الكفر.

فإن قيل: أليس أمرنا أن نقاتل أهل الكفر؛ ليسلموا، وذلك إسلام بإكراه؟! وعلى ذلك نطق الكتاب، وهو قوله:تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [الفتح: 16]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا الله " ، ثم إذا أسلم لخوف السيف - كان إسلامه إسلاماً في الظاهر ما يمنع كذلك أنه إذا أكره على الكفر، فأجرى كلمة الكفر على لسانه - كان كفره كفراً في الظاهر؛ فيحكم بكفره كما حكم في الإسلام على الإكراه؛ فما الفرق فيه؟!

قيل: إن ذلك كان يجيء إلا أن الله - تعالى - أعفى عباده عن ذلك؛ فأبقاهم على الإيمان وحكمه، وإن أظهروا بلسانهم كلام الكفر بعد أن تكون قلوبهم مطمئنة بذلك؛ فضلاً منه ونعمة، وإلا: القياس أن يحكم بحكم الكفر إذا تكلم بكلام الكفر، وأمّا الطلاق والعتاق والنكاح ونحوه، وهو ظاهر على ما تكلم به، عامل واقع؛ لأن الطلاق والعتاق ونحوهما ممّا يتعلق بالكلام نفسه لا بغيره، فهو - وإن أكره على ذلك - فهو مختار للتكلم به، قاصد له؛ لأن المكره لو أحب أن يستعمل لسانه بالتكلم بما ذكر ما قدر عليه؛ دل أنه على الاختيار يتكلم، وأما البيع والشراء ونحوه لم يتعلق بالكلام نفسه؛ إذ قد يكون بالأخذ والتسليم دون التكلم به؛ لذلك عمل الإكراه في إبطاله كما أبقاهم على الإيمان وحكمه، وإن أظهر بلسانه كلام الكفر بعد أن يكون قلبه مطمئنّاً بذلك، وعلى ذلك ما روي عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:

السابقالتالي
2 3 4