الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } * { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } * { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ }

قوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ }.

قيل: في ملك الأولين. وقيل: في فرق الأولين. وقيل: في جماعات [الأولين]، وهو واحد.

{ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.

يصبر رسوله على استهزاء قومه إياه، وأذاهم له.

يقول - والله أعلم -: لست أنت المخصوص بهذا، ولكن لك شركاء وأصحاب في ذلك؛ ليخف ذلك عليه ويهون؛ لأن العرف في الخلق أن من كان له شركاء وأصحاب في شدة أصابته أو بلاء يصيبه - كان ذلك أيسر عليه، وأهون من أن يكون مخصوصاً به، من بين سائر الخلائق. والله أعلم.

كأن هذه الآية صلة قولهم: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ } ، فكأنه لما سمع هذا اشتد عليه، وضاق صدره بذلك؛ فعند ذلك قال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ... } إلى آخره، يصبره على أذاهم وهزئهم به؛ فإنما يشتد عليه ذلك؛ على قدر شفقته ونصيحته لهم، وكان بلغ نصيحته وشفقته لهم ما ذكر:لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } [الشعراء: 3] وقوله:فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8] كادت نفسه تهلك، أو ذكر هذا له لما أن هؤلاء - أعني قومه - إنما استهزءوا به تقليداً لآبائهم، واستهزاء بهم وتلقنوا منهم، لا أنهم أنشئوا ذلك من أنفسهم، وأولئك - أعني: الأوائل - إنما استهزءوا برسلهم، لا تقليداً بأحد، ولكن إنشاء من ذات أنفسهم، فمن استهزأ بآخر [فشتمه؛ تقليداً] واقتداء وتلقناً - كان ذلك أيسر عليه وأخف ممن فعل به من ذاته؛ لأنه إنما يلقن المجانين والصبيان ومن به آفة، بمثل ذلك؛ فهم الذين يعملون بالتلقين، وأما العقلاء السالمون عن الآفات - فلا، فذلك أهون عليه من استهزاء أولئك برسلهم والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ }.

اختلف فيه: قال بعضهم: كذلك نسلك التكذيب والاستهزاء في قلوب المجرمين؛ لا يؤمنون به، يقول: من حكم الله أن يسلك التكذيب في قلب من اختار التكذيب وكذبه، ومن حكمه أن يسلك التصديق في قلب من صدقه واختاره؛ كقوله:فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5] وكقوله:وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } [البقرة: 26].

وقال بعضهم: قوله: { كَذَلِكَ } نجعل الكفر والتكذيب { فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } بكفرهم؛ كقوله:وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ... } الآية [الأنعام: 25] وقوله:وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } [المائدة: 13] ونحوه.

ويحتمل قوله: { نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } الحجج والآيات؛ ليكون تكذيبهم وردّهم [الآيات والحجج]، وتكذيبهم تكذيب عناد ومكابرة، لا يؤمنون به.

وقوله: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } أي: مثل الذي سلكنا في قلوب المؤمنين؛ من قبول الآيات والحجج، والتصديق لها؛ لما علم أنهم يختارون ذلك - نسلك في قلوب المجرمين؛ من تكذيب الآيات والحجج وردها؛ لما علم منهم الرد والتكذيب لها.

السابقالتالي
2