الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } * { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } * { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } * { وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ } * { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }

قوله - عز وجل -: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ }:

قال الفقيه - رحمه الله -: الأمر بالتعوذ به يحتمل وجوها ثلاثة:

أحدها: على التعليم، لا لنازلة كانت في ذلك الوقت؛ لكن لما علم الله - تعالى - من عظيم شر من ذكر بما يظن بالأغلب أن شر ما ذكر يتصل بالذي ذكر في علم الله تعالى؛ فأمرهم بالتعوذ به، كما أخبر في أمر الشيطان: أنه عدو لهم، وأنه يراهم من حيث لا يرونه؛ ليكونوا أبدا معدين متيقظين فزعين إلى الله - تعالى - معتصمين، وهذا أحق في التعليم من الذي ذكر في سورة الناس؛ لأنه أضر من ذلك العدو؛ لأن ضرره إنما يتصل به بإتيانه ما دعاه إليه الشيطان، وما يوسوس في صدره الوسواس، وذلك فعله يمكنه الامتناع عنه، وهذا الضرر يقع بفعل غيره من وجه لا يعلم مأتاه - أعني: شر النفاثات ونحو ذلك - فهو أحق في تعليم العباد فيه، والأمر بالفزع إلى من بلطفه جعل ذلك الفعل ممن ذكرنا معمولا فيه مؤثرا.

والثاني: ما قيل: " نزل جبريل - عليه السلام - على رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقال]: " إن عفريتا من الجن يكيدك؛ فتعوذ بأعوذ برب الفلق، وبرب الناس من شره إذا أويت إلى الفراش ".

والثالث: قيل: إن واحدا من اليهود سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل هذا.

قال أبو بكر الأصم: ذكروا في [هذه السورة] حديثا فيه ما لا يجوز؛ فتركته.

قال الفقيه - رحمه الله -: ولكن عندنا فيما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر - وجهان في إثبات [رسالته ونبوته].

أحدهما: بما أعلمه بالوحي أنه سحر، وذلك فعل فعلوه سرا منه، ولا وقوف لأحد على الغيب إلا بالوحي.

والثاني: بما أبطل عمل السحر بتلاوة القرآن؛ فيصير لتلاوته في إبطال عمل السحر ما لعصا موسى - عليه السلام - وأن هذا في كونه آية أعظم مما فعل موسى عليه السلام؛ لأن ذلك يتنوع بتنوع ما له الفعل والعمل من حيث الجوهر والطبع من حيث مرأى العين؛ فإنه ثعبان يلقف ما صنعوا. فأما إبطال السحر وعمله بتلاوة القرآن لا يكون إلا باللطف من الله تعالى، والله أعلم.

ثم الأصل في هذا عندنا: أنه قد ثبت الأمر بالتعوذ بقوله: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } ، وقد بينا حق الاشتراك فيما يتضمن هذا الأمر إن كان على نازلة في واحد، أو على ابتداء التعليم، فهو أمر فيه رجاء للفرج والمخرج من الأمور الضارة بما يعتصم فيها بالله - تعالى - بما عنده من اللطائف؛ فجائز تمكينه من أمور ضارة باللطف من حيث لا يعلم البشر مأتاه، ولعل الذي يعمل به لا يعلم حقيقة ذلك العمل الذي جعل الله لذلك العمل إلا بما سبق من وقوع ذلك، وقد يجوز الأمر والنهي بأشياء بعينها من الأفعال؛ لمكان ما يتولد عنها من المنافع والمضار باللطف من حيث لا فعل في حقيقة ذلك للخلق؛ وإنما ذلك لطف من الله - تعالى - نحو ما نهى عن أكل أشياء، وأمر بها، مما بها الاعتداء والقتل، من غير أن نعلم حقيقة وصول ذلك إلى ما يعدو أو يقتل وأي حكمة في ذلك ومعنى له؟.

السابقالتالي
2 3 4 5