الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } * { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } * { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }

قوله - عز وجل -: { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } هذا خرج مخرج الامتنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإنعام عليه والإفضال؛ ليستأدي بذلك شكره والخضوع له.

ثم اختلفوا في { ٱلْكَوْثَرَ }:

[فقيل]: هو الخير الكثير، والخير الكثير: ما أعطي من النبوة والرسالة وما لا ينجو أحد من سخط الله - تعالى - إلا به، وهو الإيمان به والتصديق له، وما صيره معروفا مذكورا في الملائكة، وما قرن ذكره بذكره، ورفع قدره ومنزلته في جميع الخلائق، وغير ذلك مما لا يحصى، وهو ما قال:وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح: 4].

وقال بعضهم: { ٱلْكَوْثَرَ }: نهر في الجنة، وعلى ذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه سئل عن { ٱلْكَوْثَرَ } فقال: " نهر في الجنة " ، أو قال ذلك من غير سؤال.

فإن ثبتت الأخبار فهو ذاك كفينا عن ذكره، وإن لم تثبت الأخبار فالوجه الأول أقرب عندنا؛ لأنه ليس في إعطائه النهر تخصيص في التشريف والعطية؛ لأن الله - تعالى - وعد لأمته ما هو أكثر من هذا؛ لما روي في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن لأهل الجنة في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " ، ونحن نعلم أن هذا في الإنعام أكثر من النهر الذي وصف.

وقال بعضهم: { ٱلْكَوْثَرَ }: شيء أعطاه الله - تعالى - رسوله لا يعرف.

وأصله: أنه شيء خاطب به رسوله، وهو قد عرفه؛ فلا يجب أن يتكلف معرفته وتفسيره؛ لأنه إن أخطأ لحقه الضرر، وإن أصابه لم ينفع كثير نفع.

وقيل: { ٱلْكَوْثَرَ }: هو حرف أخذ من الكتب المتقدمة.

وقوله - عز وجل -: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } ، اختلف فيه:

قال بعضهم: حقيقة الصلاة هي الخضوع والخشوع والدعاء، أمره بجميع ما يعبده في نفسه، وأمره أن يأتي بما تعبده من القرابين، والذبائح، والضحايا التي فيها نفار الطباع؛ حتى أن من الكفرة من يحرم الذبائح والنحر؛ للآلام التي فيها، والطباع تنفر عن ذلك؛ فتعبده بالذي فيه مناقضة طبعه ونفاره عنه.

وجائز أن يكون لا على الأمر بالصلاة والنحر، ولكن معناه: إذا فعلت ذلك فافعل لله؛ لأن أولئك الكفرة كانوا يصلون للأصنام، ويذبحون لها؛ كقوله:وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3]، أي: للنصب، فأمره أن يجعل ذلك لله تعالى.

وقال الحسن: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } صلاة العيد، وانحر البدن بعدها.

وقال مجاهد وعطاء: صل الصبح بجمع، وانحر بمنى.

وقال بعضهم: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } حقيقة الصلاة، وهي الصلاة المعروفة المفروضة، وهي مخ العبادة؛ على ما ذكر في الخبر.

وكذلك ما ذكر أن المصلي مناجٍ الرب تعالى؛ وهو - والله أعلم - لأنه ما من عبادة إلا وفيها شيء من اللذة وقضاء شهوة النفس وأمانيها من السير، والركوب، والأكل، والشرب، والكلام، والانتقال من موضع إلى موضع، وغير ذلك من الطاعات مما فيه شيء من اللذة للنفس وقضاء شهوتها - وإن قل - من الحج والزكاة والجهاد وغير ذلك، إلا الصلاة نفسها؛ فإن فيها قطع النفس عن جميع شهواتها وأمانيها، وعن جميع ما يتلذذ به من أنواع اللذات، وعلى ذلك ما سمي موسى - عليه السلام -: كليم الله، ونجيه؛ لأنه فارق قومه وجميع ما للنفس فيه لذة وراحة، وأتى جبلا ليس فيه أحد، وكلمه ربه في ذلك؛ فسمي: نجي الله، وعلى ذلك سمي المصلي: مناجيا ربه، وخص بذلك الاسم؛ لما ذكرنا.

السابقالتالي
2 3