الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ }؛ أي واذْكرُوا إذ زَيَّنَ لَهم الشيطانُ أعمالَهم يومَ بدرٍ، وقالَ: لاَ غَالِبَ لكم اليومَ مِن أحدٍ من الناس فمنَعْتُكُم وكثَّرْتُكم وإنِّي دافعٌ عنكم الشرَّ، { فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ }؛ أي لَمَّا توافَقَتا رجعَ الشيطانُ القَهْقرَى على عَقِبَيهِ هَارباً خَوْفاً مما رأى، { وَقَالَ }؛ للمشركين: { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا }؛ أي الملائكةَ تَنْزِلُ من السَّماء وأنتم، { لاَ تَرَوْنَ }؛ وكان يعرفُ الملائكةَ ويعرفونَهُ.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ }؛ أي أخافهُ أنْ يُصيبَني معَكم بعذابهِ، { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }؛ لِمَنِ استحقَّهُ، قال مقاتلُ: (كَذبَ عَدُوُّ اللهِ، مَا كَانَ بهِ مِنْ خَوْفٍ مِنَ اللهِ، فَإنَّ اللهَ قَدْ أنْظَرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَلَكِنَّهُ خَذلَهُمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ). ويقالُ: ظنَّ إبليسُ أن الوقتَ الذي أنظرَهُ الله قد حضرَ.

وعن ابنِ عبِّاس: (أنَّ أهْلَ مَكَّةَ لَمَّا وَجَدُواْ الْعِيرَ أرَادُوا الرُّجُوعَ، فَتَمَثَّلَ لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْنَمِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ: لاَ تَرْجِعُواْ حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ، فإِنَّكُمْ كَثيرٌ وَهُمْ قَلِيلٌ، وَلاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإنِّي مُعِينٌ لَكُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فلاَ تَمُرُّونَ بأحَدٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ إلاَّ سَارَ مَعَكُمْ، فَإنَّهُمْ لاَ يُخَالِفُونَنِي.

فَسَارُواْ وَسَارَ إبْلِيسُ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَخْرُجْ أحَدٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، فَجَعَلُواْ يَقُولُونَ: يَا سُرَاقَةُ أيْنَ مَا ضَمَمْتَ لَنَا؟ فَيَقُولُ: مُرُونِي، حَتَّى قَدِمُوا بَدْراً، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْقِتَالِ رَأى إبْلِيسُ جِبْرِيلَ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبيْهِ رَاجِعاً، وََقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: يَا سُرَاقَةُ أيْنَ تَذْهَبُ؟ فَقَالَ: إنِّي أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ، فَقَالَ الْحَارثُ: وَمَا تَرَى إلاَّ جَعَاشِيشَ أهْلَ يَثْرِبَ؟ - وَالْجُعْشُوشُ: الرَّجُلُ الْقَصِِيرُ - فَلَمَّا رَأى الْحَارثُ إبْلِيسَ يَنْطَلِقُ، أهْوَى بهِ لِيَأْخُذهُ، فَدَفَعَهُ إبْلِيسُ فَرَمَى بهِ، ثمَّ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وقَالَ: - إني - أخَافُ اللهَ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَاب.

فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ جَعَلُوا يَقُولُونَ: هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ، فَبَلَغَ ذلِكَ سُرَاقَةُ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: بَلَغَنِي أنَّكُمْ تَقُولُونَ أنِّي هَزَمْتُ النَّاسَ! وَالَّذِي نَحْلِفُ بهِ مَا بَلَغَنِي مَا تَقُولُونَ وَلاَ سَمِعْتُ بمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَنِي هَزِيْمَتُكُمْ، فَجَعَلُواْ يَقُولُونَ لَهُ: أمَا أتَيْتَنَا يَوْمَ كَذا وَكَذا؟ وَهُوَ يَقُولُ: لاَ؛ وَالَّذي نَحْلِفُ بهِ مَا كَانَ مِنْ ذا قَلِيلٍ وَلاَ كَثِيرٍ. فَلَمَّا أسْلَمُواْ عَرَفُوا أنَّهُ إنَّما كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ).

فإنْ قِيْلَ: كيفَ يجوزُ أن يتمكَّن إبليسُ مِنْ أن يخلعَ صورةَ نفسهِ ويلبسَ صورةَ سُراقة؟ ولو كان قادِراً على أن يجعلَ نفسَهُ صورةَ إنسانٍ كان قادراً على أن يجعلَ غيرَهُ إنسَاناً؟ قِيْلَ: إذا صَحَّتْ هذه الروايةُ، فالجوابُ: أن اللهَ خَلَقَ إبليسَ في صُورةِ سُراقة، واللهُ تعالى قادرٌ على خلقٍ إنسانٍ في مثلِ صورة سُراقة ابتداءً، فكان قادراً على أن يُصوِّر إبليسَ في مثل صورةِ سُراقة.