* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ }؛ معناهُ: إنَّ ربَّكَ يا مُحَمَّدُ يعلمُ إنَّكَ تقومُ أقَلَّ من ثُلُثَي الليلِ في بعضِ اللَّيالي، وأقلَّ من نصفِ اللَّيلِ في بعضِ اللَّيالي، وأقلَّ من الثُّلث في بعضِها. قَوْلُهُ تَعَالى: { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ }؛ يعني: الْمُؤمِنون كانوا يقُومون معَهُ.
قرأ الكوفيُّون وابنُ كثير (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب فيهما على معنى: ويقومُ نصفَهُ وثُلثَهُ. وقال الحسنَ: ((لَمْ يَقُمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أقَلَّ مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ، وَإنَّمَا قَالَ: (أدْنَى) فِي الطَّائِفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ)) ولفظهُ (أدْنَى) تُعقَلُ منها القلَّة، لا يقالُ: عندِي دونَ العشرةِ إلاَّ والنُّقصان منها قليلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ }؛ أي يعلَمُ مقاديرَهما وساعاتِهما على الحقيقةِ، { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ }؛ أي عَلِمَ أنَّكم لم تعلَمُوا حقيقةَ قدرهما، يعني أنَّكم ما تعرِفُون مقاديرَ اللَّيل والنهار، ولذا لم تعلَمُوا حقيقةَ المقدار الذي أمَرَكم بالقيامِ فيه لم تُطِيقوهُ إلاَّ بمشقَّة، { فَتَابَ عَلَيْكُمْ }؛ أي فتجاوزَ عنكم قيامَ الليلِ بالتخفيفِ عنكم، { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }؛ في صلاةِ اللَّيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ }؛ لا يقدِرون على قيامِ اللَّيل بقراءةِ السُّوَر الطِّوالِ، { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ }؛ أي وآخَرُون يُسافِرُونَ لطلب رزقِ الله فلا يُطيقون ذلكَ، { وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }؛ أي وعَلِمَ أنَّ فيكم مَن يجاهدُ في سبيلِ اللهِ، يعني يقاتلُ أعداءَ اللهِ لا يُطيقون قيامَ الليلِ، { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }؛ أي مِن القُرآن في الصَّلاة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ }؛ أي وأقِيمُوا الصَّلوات الخمسِ بشَرائطِها وما يجبُ من حقِّ الله فيها، فنُسِخَ قيامُ الليلِ بالصَّلوات الخمسِ على المؤمنين، وثَبَتَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ }؛ يعني المفروضةَ، { وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }؛ من الصَّدقة سِوَى الزكاةِ من صِلَةِ الرَّحم، وقِرَى الضيفِ، وصدقةِ التطوُّع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ }؛ أي ما تفعَلُوا من صدقةٍ فريضة أو تطوُّع أو عملٍ صالح تجدُوا ثوابَهُ عند اللهِ، { هُوَ خَيْراً }؛ لكم، { وَأَعْظَمَ أَجْراً }؛ مِن الذي تُؤخِّرونَهُ إلى الوصيَّة عند الموتِ.
وإنما انتصبَ (خَيْراً) لأنه المفعولُ الثاني، وأدخل (هو) فصل، ويسَمِّيه الكوفيُّون العمادَ، { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ }؛ لِمَا مضَى من الذُّنوب والتقصيرِ في الطاعة، { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ }؛ لِمَن استغفرَ، { رَّحِيمٌ }؛ لِمَن ماتَ على التوبةِ.
وقد تضمَّنت هذه الآيةُ معانٍ: أحدُها: أنه نَسَخَ بها فريضةَ قيامِ الليل. الثانِي: أنَّها تدلُّ على لُزوم فرضِ القراءةِ في الصَّلاة؛ لأن القراءةَ لا تلزَمُ في عينِ الصَّلاة. والثالث: دلالةُ جواز الصَّلاة بقليلِ القراءةِ. والرابعُ: أنَّ تركَ قراءةِ الفاتحةِ في الصَّلاة لا تمنعُ جوازَها إذا قرأ فيها غيرَها.