الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ }؛ أي وَزْنُ الأعمالِ يومَ القيامة الحقُّ؛ فلا يُنْقَصُ من إحسانِ مُحْسِنٍ؛ ولا يُزَادُ على إساءَةِ مُسِيْءٍ. وقال مجاهدُ: (مَعْنَاهُ: وَالْقَضَاءُ يَوْمَئِذٍ الْعَدْلُ).

قولهُ: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }؛ أي مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ على سيِّئاتِه فأولئكَ همُ الظَّافِرُونَ بالمرادِ، { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ على حسناتهِ، { فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم } عَمَواْ حَظَّ أنفسِهم، { بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ }؛ أي بما كانوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَجْحَدُونَ. فَالْخُسْرَانُ: ذهَابُ رَأسِ الْمَالِ؛ ورأسُ مالِ الإنسان نفسُه؛ فإذا هَلَكَ بسوءِ عمله فقد خَسِرَ نفسَه.

وقد تكلَّموا في ذِكْرِ الموازينِ يومَ القيامة؛ قال ابنُ عبَّاس: (تُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فِي مِيْزَانٍ لَهُ لِسَانٌ وَكَفَّتَان تُوضَعُ فِيْهِ أعْمَالُهُمْ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنَ فَيُؤْتَى بعَمَلِهِ فِي أحْسَنِ صُورَةٍ؛ فَيُوضَعُ فِي كَفَّةِ الْمِيْزَانِ؛ فَتَثْقُلُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ؛ فَيُوضَعُ عَمَلُهُ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ مَنَازلهِ؛ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إلْحَقْ بعَمَلِكَ؛ فَيَأْتِي مَنَازِلَهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَعْرِفُهَا بَعمَلِه.

وَأمَّا الْكَافِرُ؛ فَيُؤْتَى بعَمَلِهِ فِي أقْبَحِ صُورَةٍ؛ فَيُوضَعُ فِي كَفَّةِ الْمِيْزَانِ؛ فَيَخِفُّ - وَالْبَاطِلُ خَفِيْفٌ - ثُمَّ يُرْفَعُ فَيُوضَعُ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إلْحَقْ بَعَمِلكَ؛ فَيَلْحَقُ فَيَأْتِي مَنَازِلَهُ فِي النَّار).

وَقِيْلَ: إنَّ المرادَ بالعملِ في هذا الخبرِ أنَّ الله يجعلُ للحسناتِ صورةً حسَنةً؛ وللسيِّئاتِ صورةً قبيحةً، إلاَّ أن عَيْنَ الأعمالِ تُوزَنُ؛ لأنَّ الأعمال أعراضٌ مُنْقَضِيَةٌ لا تُعَادُ. وقال ابنُ عمر: (يُؤْتَى بصُحُفِ الطَّاعَاتِ وَصُحُفِ الْمَعَاصِي، فُتُوزَنُ الصُّحُفُ).

وعن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: " يُؤْتَى بالْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْمِيْزَانِ، ثُمَّ يُؤْتَى بتِسْعَةٍ وَتِسْعِيْنَ سِجِلاً؛ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَدَّ الْبَصَرِ؛ فِيْهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ؛ فَتُوضَعُ فِي كَفَّةِ الْمِيزَانِ، ثُمَّ تُخْرَجُ بطَاقَةً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ بمِقْدَار أنْمُلَةٍ؛ فِيْهَا شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ فَتُوضَعُ فِي الْكَفَّةِ الأُخْرَى. فَيَقُولُ الْعَبْدُ: يا رَب؛ مَا تَزِنُ هَذِهِ الْبطَاقَةُ مَعَ هَذِه الصَّحَائِفِ؟! فَيَأْمُرُ اللهُ أنْ تُوضَعَ؛ فإذا وُضِعَتْ فِي الْكَفَّةِ طَاشَتِ الصُّحُفُ وَرَجَحَتِ الْبطَاقَةُ "

وقال بعضُهم: يُوزَنُ الإنسانُ، كما قال صلى الله عليه وسلم: " يُؤْتَى بالرَّجُلِ الأَكُولِ الشَّرُوب الْعَظِيْمِ فَيُوزَنُ؛ فَلاَ يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ إقْرَأوا إنْ شِئْتُمْ: { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } "

وأما ذِكْرُ الموازينِ بلفظ الجماعة؛ فلأنَّ الميزانَ يشتملُ على الكفَّتين والخيوطِ والشاهدين. فإن قِيْلَ: ما الحكمةُ في وزنِ الأعمال، واللهُ قادرٌ عالِمٌ بمقدار كلِّ شيء قبلَ خَلْقِهِ إيَّاهُ وبعدَه؟ قِيْلَ: لإقامةِ الحجَّة عليهم، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 29] فأخبرَ بنسخِ الأعمال وإثباتِها مع عِلْمِهِ بها لِما ذكرنا. وَقِيْلَ: الحكمةُ فيه تعريفِ الله العبادَ ما لَهم عندهُ من جزاءٍ على الخير والشرِّ. وَقِيْلَ: جعلهُ الله علامةً للسعادة والشقاوَةِ. وَقِيْلَ: لامتحانِ الله عبادَهُ بالإيْمان به في الدُّنيا.