الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ }؛ أي خَلَفَ مِن بعد هؤلاءِ الذين قطَّعناهم في الأرضِ ذرِّيةُ سُوءٍ، وهم الذين أدرَكَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال ابنُ الأعرابي: (الْخَلَفُ بفَتْحِ اللاَّمِ الصَّالِحُ، وبإسكانِ اللام الطَّالِحُ)، قال لَبيدٌ:
ذهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أكْنَافِهِمْ   وَبَقِِيْتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَب
ومنهُ قيلَ لرَدِّ الكلامِ خِلْفٌ، ومنه المثلُ السائر (سَكَتَ ألْفاً وَنَطَقَ خَلْفاً)، قال النَّضِرُ بنُ شُمَيلٍ: (الْخَلَفُ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَإٍسْكَانِهَا فِي الْقَرْنِ السُّوءِ، وَأَمَّا الْقَرْنُ الصَّالِحُ فَتَحْرِيكُهَا لاَ غَيْرَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّا وَجَدْنَا خَلْفَنَا بئسَ الْخَلْفِ   عَبْداً إذا مَا نَاءَ بالْحِمْلِ خَضَفْ
وقال محمَّد بن جرير: (أكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْمَدْحِ بفتحِ اللاَّمِ، وَفِي الذمِ بِتَسْكِينِهَا، وقد تُحرَّكُ في الذمِّ ويُسَكَّنُ في المدحِ. قال حسَّانٌ في المدحِ:
لَنَا الْقَدَمُ الأُوْلَى إلَيْكَ وَخَلْفُنَا   لأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابعُ
قال: (وَأحْسَبُهُ فِي الذمِّ مَأْخوذٌ مِنْ خَلْفِ اللَّبَنِ إذا حَمِضَ مِنْ طُولِ تَرْكِهِ فِي السِّقَاءِ حَتَّى يَفْسَدَ، وَِِِِمِنْهُ قَوْلُهُم: خَلْفُ فَمِ الصَّائِمِ؛ إذا تَغَيَّرَتْ ريحُهُ وَفَسَدَتْ، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ الْفَاسِدَ مُشَبَّهٌ بهِ). والحاصلُ أنَّ كُلاً منهما يُستعملان في الشرِّ والخيرِ، إلاَّ أنَّ أكثرَ الاستعمالِ في الخيرِ بالفتح.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ } أي التَّوراة، والميراثُ ما صارَ للباقي من جهةِ البَادِي كأنه قال فخَلَفَ من بعدِ الهالِكين منهم خَلْفٌ وَرُثوُا الكتابَ. وقولهُ تعَالى: { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ }؛ يعني به أخْذُ الرَّشوةِ في الْحُكمِ؛ لتغيِّر الحقَّ إلى الباطلِ. وقال بعضُهم: كانوا يحكِمُون بالحقِّ لكن بالرَّشوة، وإنما سُمي متاعُ الدنيا عَرَضاً لقلَّة بقائهِ كأنه يعرضُ فيزول. قَالَ اللهُ تَعَالَى:هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [الأحقاف: 24] أرادَ بذلك السَّحابَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا }؛ أي يقولون مع أخذِهم الرَّشوة أنه سيُغفَرُ لنا ذلك، وما عمِلناهُ باللَّيل كُفِّرَ عنا بالنهار، وما عملناهُ بالنهار كُفِّرَ عنا بالليلِ، { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ }؛ معناهُ: وإنْ عرضَ لهم ذنبٌ آخر عَمِلُوهُ، وفي هذا بيانُ أنَّهم كانوا يُصِرُّونَ على الذنب وأكلِ الحرام، وكانوا يستَغفِرُونَ مع الإصرار، فكيف يُغفَرُ لهم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ }؛ معناهُ: ألَمْ يُؤخذ عليهم الميثاقُ في التَّوراةِ ألاَّ يقولوا على اللهِ إلا الصِّدقَ، وكان في التوراةِ أنَّ مَن ارتكبَ ذنباً عظيماً لَمْ يُغفر له بالتوبةِ، { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ }؛ فكانوا يدرسون ما في التَّوراةِ، ويذكرون ما أُخذ عليهم من المواثيقِ، يقولون مع إصرارهم على الذُّنوب: سيُغفَرُ لنا.

وقال الحسنُ: (مَعْنَى الآيَةِ أنَّهُمْ كَانُواْ يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حُرِّمَ عَلَيهِمْ وَيُمْنَعُونَ كُلَّ حَقٍّ، وَيُنْفِقُونَ فِي كُلِّ سَرَفٍ، وَيَتَمَنَّونَ مَعَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ، وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنَا، وإنْ يأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ كَمَا أخَذُواْ، ألَمْ يَعْرِفُواْ فِي الْكِتَاب خِلاَفَ مَا هُمْ عَلَيْهِ). وقرأ السلميُّ: (وَادَّارَسُوا فِيْهِ مِثْلَ ادَّارَكُواْ).

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ }؛ أي يتَّقونَ المعاصي والشِّرك وأكلِ الحرامِ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }؛ ما يَدرُسون في كتابهم، وَقِيْلَ: أفلاَ يعقِلُونَ أن الإصرارَ على الذنب ليس من علامةِ المغفور لَهم.