* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ }؛ قال ابن عبَّاس وسعيدُ بن جُبير في معنى هذه الآية: " جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَال لَهُ مَالِكُ بنُ الصَّيْفِ، وَكَانَ رَأسَ الْيَهُودِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أُنْشِدُكَ اللهَ يَا مَالِكُ بالَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عليه السلام؛ أتَجِدُ فِيْهَا أنَّ اللهَ يَبْغَضُ الْحَبْرَ السَّمِيْنَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فأَنْتَ الْحَبْرُ السَّمِيْنُ، وَقَدْ سَمََّنَتْكَ مَأكَلَتُكَ الَّتِي ُتُطْعِمُكَ الْيَهُودُ، وَلَسْتَ تَصُومُ - أيْ وَلَسْتَ تُمْسِكُ - " فَضَحِكَ بهِ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَغَضِبَ مَالِكٌ، وَكَانَ حَبْراً سَمِيْناً، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه وَقَالَ: مَا أنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
وقال السُّدِّيُّ: (نَزَلَتْ في فِنْحَاصَ بْنِ زَوْرَاءَ؛ وَهُوَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ). وقال مُحمد بن كعبٍ: (جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَهُوَ مُحْتَبٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ألاَ تَأْتِيْنَا بكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ، كَمَا جَاءَ بهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } [النساء: 153]. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ: مَا أنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ، وَلاَ عَلَى مُوسَى، وَلاَ عَلَى عيْسَى، وَلاَ عَلَى أحَدٍ شَيْئاً. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها: ما عَظَّمُوا اللهَ حقَّ عَظَمَتِهِ، ولا عَرَفُوهُ حقَّ معرفتِه إذ جَحَدُوا فقَالُوا: مَا أنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ؛ أي من كتابٍ ولا وَحْيٍ، { قُلْ }؛ لَهم يا مُحَمّدُ: { مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ }؛ يعني التوراةَ؛ { نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ }؛ أي ضياءً للناسِ وبياناً لَهم من الضَّلاَلة، { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ }؛ يكتبونَه صحائفَ، { تُبْدُونَهَا }؛ يظهرونَ ما فيها مما ليسَ فيه صفةُ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم وزمانُه ومبعثه ونبوَّتُه، { وَتُخْفُونَ كَثِيراً }؛ أي يسترون ما فيه صفةُ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم وبَعَثُهُ وآيةُ الرَّجمِ.
وقولُه تعالى: { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ }؛ يحتملُ أن يكون خطاباً للمسلمين، أي عُلِّمْتُمْ أنتم أيُّها المؤمنون من الأحكامِ والحدُودِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ. والأظهرُ: أنه خطابٌ لليهودِ؛ لأنه مَسُوقٌ على ما سبقَ، معناهُ: عَلِمْتُمْ بالقُرْآنِ ما كنتم أخْفَيْتُمُوهُ قبلَ نزولِ القُرْآنِ؛ لأنَّهم قد ضَيَّعُوا شيئاً كثيراً من الْقُرْآنِ والأحكامِ، وكانوا يُعَانِدُونَ ولا يعملونَ حتى صاروا كأنُّهم لم يعلمُوه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلِ ٱللَّهُ }؛ معناه: إنْ هم أجابُوكَ وقالوا: أعْلَمَنَا اللهُ، وإلا فَقُلْ: اللهُ عَلَّمَكُمْ. ويقال معناهُ: قُلِ اللهُ أنزلَ الكتابَ على موسى، { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }؛ أي دَعْهُمْ واتركهم في باطلِهم يَلْهُونَ، ويقال لكلِّ من عَمِلَ ما لا ينفعهُ: إنَّما أنْتَ لاَعِبٌ.