الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }؛ أي هو الْغَالِبُ لعبادهِ الْمُسْتَعْلِي عليهم بالقدرَةِ، وليس معنى (فَوْقَ) معنى المكان؛ لاستحالةِ إِضافَةِ الأماكنِ إلى الله، وإنَّما معناهُ الْغَلَبَةُ والقدرةُ، ونظيرهُ: فلانٌ فَوْقَ فلانٍ في العلمِ؛ أي أعْلَمُ منهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً }؛ معناه: وَالْمُرْسِلُ عَلَيٍْكُمْ حَفَظَةً، فاكتفَى بالفعلِ عن الاسم. وَالْحَفَظَةُ: هُمُ الْمَلاَئِكَةُ يحفظونَ على العبادِ أعمالَهم على ما تقدَّم.

وقد وردَ في الخبرِ: أن على كلِّ واحدٍ منَّا ملَكين بالليلِ؛ وملَكين بالنهار، يكتبُ أحدُهما الحسناتِ؛ والآخرُ السيِّئاتِ، وصاحبُ اليمينِ أميرٌ على صاحب الشِّمال، فإذا عَمِلَ العبدُ حسنةً؛ كتبَ له بعَشْرِ أمثالِها؛ وإذا عَمِلَ سيِّئةً فأرادَ صاحبُ الشِّمال أن يكتبَ؛ قال له صاحبُ اليمين: أمْسِكْ، فيمسِكُ عنه ستِّ ساعاتٍ أو سبع ساعات، فإنْ هو استغفرَ اللهَ تعالى؛ لم يكتُبْ عليه، وإن لم يستغفرْ يكتب عليه سيِّئةً واحدةً.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } معناه: حَتَّى إذا حضرَ أحَدَكُمْ الْمَوْتُ؛ قبضَ روحَهُ مَلَكُ الموتِ وأعوانُه، وَهُمْ لا يقصِّرونَ ولا يؤخِّرونَه طرفةَ عينٍ، فإن قيلَ: كيفَ هنا { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } وقال في آيةٍ أخرى:قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ } [السجدة: 11]؟ قيلَ: إنَّ مَلَكَ الموتِ هو الذي يقبضُ الأرواحَ كلَّها وهو القائمُ بذلك؛ إلا أنَّ له أعواناً؛ فتارةً أضافَ قبضَ الروحِ إلى مَلَكِ الموتِ؛ لأنه هو المختصُّ بذلك، وتارةً أضافَهُ إليه وإلى غيرِه؛ لأنَّهم يَصْدُرُونَ في ذلك عن أمرهِ.

وقال مجاهدُ: (جُعِلَتِ الأََرْضُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ كَالطَّشْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ، ولَهُ أعْوانٌ يَتَوَفَّوْنَ الأَنْفُسَ، ثُمَّ يَقْبضُهَا مِنْهُمْ). ويقالُ: إنَّ أعوانَ مَلَكِ الموت يستخرجون الروحَ من الأعضاءِ عُضْواً عُضْواً، حتى إذا جَمَعُوهُ في صدرهِ وجعل يُغَرْغِرُ به؛ قبضَهُ حينئذٍ مَلَكُ الموتِ.

وقد رويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَرِيْضٍ يَعُودُهُ، فَرَأَى مَلَكَ الْمَوْتِ عِنْدَ رَأسِه؛ فقَالَ: " يَا مَلَكَ الْمَوْتِ؛ ارْفُقْ بهِ، فإِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فقَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: يَا مُحَمَّدُ؛ أبْشِرْ وَطِبٍ نَفْساً وَقَرَّ عَيْناً؛ فإِنِّي بكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيْقٌ، إنِّي لأقْبضُ رُوحَ الْمؤْمِنِ فَيُصْعَقُ أهْلُهُ فَأعْتَزِلُ فِي جَانِبِ الدَّار، فأََقُولُ: مَا لِي مِن ذنْب، وَإِنِّي لَمَأْمُورٌ، وَإنَّ لِي لَعَوْدَةً فَالْحَذرَ الْحَذرَ، وَمَا مِنْ أهْلِ بَيْتِ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، فِي بَحْرٍ أو بَرٍّ، إلاَّ وأَنَا أَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، حَتَّى أنِّي لأَعْلَمُ بصَغِيْرِهِمْ وَكَبيْرِهِمْ مِنْهُمْ بأَنْفُسِهِمْ، وَاللهِ لَوْ أَرَدْتُ أنْ أقْبضَ رُوحَ بَعُوضَةٍ لَمَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْمُرَنِي اللهُ تَعَالَى بقَبْضِهَا " ".