الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ }؛ أي قُلْ يا مُحَمَّدُ لكفار مكَّة: لِمَنْ مُلْكُ ما في السَّماوات والأرضِ، فإِنْ أجابوكَ وقالوا: لله، وإلا فَقُلْ لَهم " لله " إذ هُم يعلمونَ ويُقِرُّونَ أن الأصنامَ لا تَملك خَلْقَ شيء، وإنَّما اللهُ يَمْلِكُ ذلك.

وقَوْلُهُ تَعَالَى: { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } أي أوْجَبَ على نفسهِ الرَّحمةَ فضلاً وكَرَماً. أو قيل: معناهُ: أوجبَ على نفسهِ الثوابَ لِمن أطاعَهُ؛ وقيل: أوجبَ على نفسهِ الرحمةَ بإِمهالِ مَن عصاهُ؛ ليستدركَ ذلك بالتوبةِ ولم يُعَاجِلْهُ بالعقوبةِ، وهذا استعطافٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ للمُتَوَلِّيْنَ عنه إلى الإِقبالِ، وإخبارٌ بأنه رَحِيْمٌ بعبادهِ لا يُعَجِّلُ عليهم بالعقوبة، ويقبلُ منهم الإِنابةَ والتوبةَ.

وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " لَمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْخَلْقَ؛ كَتَبَ فَوْقَ الْعَرْشِ: إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ". وقال عمرُ رضي الله عنه لكعب الأحبار: (مَا أوَّلُ شَيْءٍ ابْتَدَأ اللهُ بهِ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: كَتَبَ اللهُ كِتَاباً لَمْ يَكْتُبْهُ بقَلَمٍ وَلاَ مِدَادٍ؛ كِتَابُهُ الزُّبَرْجَدُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتَ: إِنِّي أنا اللهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ أنا، سَبَقَتْ رَحْمَتَي غَضَبي).

وفي الخَبرِ: أنَّ للهِ تعالى مائة رحمةٍ كلُّها مِلْىءُ السَّماوات والأرضِ، فأهبطَ اللهُ تعالى منها رحمةً واحدة لأهلِ الدُّنيا، فهم بها يتراحَمون؛ وبها يتعاطَفون؛ وبها يتراحمُ الإنس والجنُّ وطيرُ السَّماء وحيتانُ الماء؛ وما بين الهواءِ ودواب الأرض وهوامِّها، وأخَّرَ تِسْعاً وتسعين رحمةً يرحمُ بها عبادَهُ يومَ القيامةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ }؛ بدلُ من الرحمةِ وتفسيرٌ لَها، فكأنَّهُ قالَ: لَيَجْمَعَنَّ بين المؤمنينَ والكفار، بين المؤمنِ والكافر في الرِّزق والنِّعمةِ والدَّولةِ إلى يومِ القيامة، لا شَكَّ فيه عند المؤمنينَ أنهُ حقٌّ كائنٌ، ثم تكونُ العاقبةُ بَدَلَ البعثِ للمؤمنين.

قَوْلُهُ تَعَالىَ: { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ }؛ ابتدأ كلامَهُ؛ وجوابهُ { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }؛ لأنَّ { ٱلَّذِينَ } في موضعِ شرطٍ؛ وتقديرُ الآية: الذين غَبَنُوا أنفسَهم وأهليهم ومنازلَهم وخَدََمَهَمْ في الجنَّة في سابق عِلْمِ الله لا يؤمنونَ؛ أي لا يُصَدِّقُونَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ.

وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ قولَه تعالى: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } كلامٌ مبتدأ على وجهِ القَسَمِ، و { ٱلَّذِينَ } بدلٌ من الكافِ والميم في { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } ، كأنهُ قال: لَيَجْمَعَنَّ هؤلاءِ المشركين { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } إلى هذا اليومِ الذي يجحدونَه ويكفُرونَه. ويحتملُ أن يكونَ قولهُ: { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } راجعاً إلى المكذِّبين، كأنهُ قال: عاقبةُ المكذبين { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ }.