الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }؛ رُوي أن هَاتين الآيتَين نزلَتا بالحديبيةِ، وكان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُحرِمين، وكان الصيدُ من الوحشِ والطير يغشَى رحالَهم. وفي قوله { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وجهانِ؛ أحدُهما: وأنتم مُحرِمون بحجٍّ أو عُمرة، والثاني: وأنتم داخِلون في الحرَمِ.

وقولهُ تعالى: { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ } دليلٌ على أن كلَّ ما يقتلهُ المحرِمُ من الصيدِ لا يكون مِلكاً؛ لأن اللهَ تعالى سَمَّى ذلك قَتلاً، ولا يجوزُ أكلُ المقتولِ وإنما يجوز أكلُ المذبوحِ على شرط الذكاة.

والصيدُ في اللغة: اسمٌ لكل مُمتَنعٍ متوحِّش، فلا يفرقُ الحكمِ في وجوب الحلِّ بين المأكولِ منه وبين غيرهِ، إلا أنه رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: " خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ؛ وَالْعَقْرَبُ؛ وَالْغُرَابُ؛ وَالْفَأْرَةُ؛ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " وأرادَ بالكلب العقور: الذئبَ على ما وردَ في بعض الرواياتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ }؛ روي أنه نزلَ في كعب بن عمرٍو؛ عُرِضَ له حمارُ وحشٍ فطعنَهُ برُمحهِ فقتلَهُ، ولم يكن عَلِمَ بنُزولِ التحريمِ.

واختلَفُوا في صفةِ العمل الموجب للجزاءِ والكفَّّارة في قتلِ الصيد، فقال الأكثَرون من أهلِ العلم: سواءٌ قَتَلَ الْمُحرِمُ الصَّيدَ عَمداً أو خطأًَ فعليه الجزاءُ، وجعلوا فائدةَ تخصيصِ العمل بالذِّكر في هذه الآيةِ ما في نَسخِها بقوله: { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ }؛ لأن المخطئَ لا يجوزُ أن يلحقه الوعيدُ.

والقول الثانِي: ما رُوي عن قتادةَ وطاووس وعطاء؛ أنَّهم قالوا: (لاَ شَيْءَ عَلَى الْخَاطِئ) وهو روايةٌ عن ابنِ عبَّاس.

والقولُ الثالث: وهو قولُ مجاهدٍ والحسن: (أنَّ الْمُرَادَ بهِ إذا قَتَلَهُ نَاسِياً لإحْرَامِهِ، وَحَصَلَ الْقَتْلُ عَمْداً). وهذا القولُ يقتضي أن غيرَ العامدِ الذاكر لإحرامهِ لا يؤمَرُ بالكفَّارة، ولكنَّ اللهَ يعاقبهُ في الآخرةِ على ما فعلَهُ. وعلى هذا التأويلِ قالوا: إنَّ معنى قولهِ: { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } أي عادَ إلى هذا الفعلِ من بعد العلمِ بالنهي، كان عقوبتهُ النقمة ينتقمُ الله منه.

وقال آخَرون: هو القتلُ عَمداً وهو ذاكرٌ لإحرامه، فحُكم عليه في العمدِ والخطأ الكفارةُ والجزاء، وهو اختيارُ الشافعيِّ. وقال الزهريُّ: (نَزَلَ الْقُرْآنُ بالْعَمْدِ، وَجَرَتِ السُّنَّةُ بالْخَطَأ). وقال ابنُ عبَّاس: (إنْ قَتَلَهُ عَمْداً سُئِلَ: هَلْ قَتَلَ قَبْلَهُ شَيْئاً مِنَ الصَّيْدِ؟ فَإنْ قَالَ: نَعَمْ؛ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهُ، وَيُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ، فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ، وَإنْ قَالَ: لَمْ أقْتُلْ قَبْلَهُ شَيْئاً، حُكِمَ عَلَيْهِ، فَإنْ عَادَ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ ثَانياً وَهُوَ مُحْرِمٌ بَعْدَمَا حُكِمَ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ ثَانِياً، ويُمْلأُ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ ضَرْباً وَجيعاً). وعندَنا إذا عادَ حُكم عليه ثانياً، وعليه الجمهورُ.

السابقالتالي
2 3