الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } * { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ }؛ وذلك أنَّ مَن شربَ الخمر وسَكِرَ زال عقلهُ وارتكبَ القبائحَ، وربَّما عَرْبَدَ على جُلسائه، فيؤدِّي ذلك إلى العداوةِ والبغضاء، وكذلك القمارُ يؤدِّي إلى ذلك. قال قتادةُ: (كَانَ الرَّجُلُ يُقَامِرُ غَيْرَهُ عَلَى مَالِهِ وَأهْلِهِ، فَيَقْمِرُهُ وَيَبْقَى حَزِيناً سَلِباً، فَيُكْسِبُهُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ لِذهَاب مَالِهِ عَنْهُ بغَيْرِ عِوَضٍ وَلاَ مِنَّةٍ).

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ }؛ أي يريدُ الشيطان أن يَصرِفَكم عن طاعةِ الله وعن الصَّلوات الخمسِ على ما هو معلومٌ في العادةِ من أحوال أهلِ الشَّراب والقِمار.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }؛ معناهُ: انْتَهُوا عنهُما، وهذا نَهيٌ بألطفِ الوجُوهِ؛ ليكون أدعى إلى تنهاكما، كما قال تعالى:فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } [هود: 14] معناه: أسلِمُوا. فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قالوا: (انْتَهَيْنَا يَا رَبُّ). فأنزلَ الله تعالى هذه الآيةَ:

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُواْ }؛ أي أطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ في تركِ جميعِ المعاصي عُموماً، واحذرُوا شُربَ الخمرِ وتحليلها وسائرِ المعاصي، { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ }؛ أي أعرَضتُم عن طاعةِ الله وطاعة الرسولِ، { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ }؛ أي تبليغُ الرسالة عن اللهِ بأوامره ونواهيه بلُغَة تعرفونَها. وأما التوفيقُ والخذلان والثواب والعقابُ، فإلى الله عَزَّوَجَلَّ.

فلمَّا نزلَ تحريمُ الخمرِ والميسر قال الصحابةُ: (يَا رَسُولَ اللهِ! فَكَيْفَ بإخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟) حتى قال المهاجِرون: (يَا رَسُولَ اللهِ! قُتِلَ أصْحَابُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَاتُوا فِيْمَا بَيْنَ بَدْر وأحُدٍ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؛ فَمَا حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ؟) فأنزل اللهُ قَولَهُ تعالى: { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ }؛ أي فيما شَرِبوا من الخمرِ، { إِذَا مَا ٱتَّقَواْ }؛ الشِّركَ، { وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ }؛ وصدقوا واجتنبوا الخمرَ والميسرَ بعد تحرِيمها، { وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ }؛ ما حرَّمَ الله كلَّهُ، { وَّأَحْسَنُواْ }.

وَقِيْلَ: معناه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا - بالله ورسوله - وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني الطاعاتِ (جُنَاحٌ) أي حرَجٌ ومَأْثَمٌ (فيمَا طَعِمُوا) من الحرامِ وشربوا من الخمرِ قبل تحريمها، وقبل العلمِ بتحريمها إذا ما اجتَنبوا الكفرَ والشِّركَ وسائرَ المعاصي فيما مضى، { وَآمَنُوا } أي وصدَّقوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ { وَعَمِلُواْ } الطاعات { ثُمَّ اتَّقَواْ } شربَ الخمرِ بعد التحريم { وَآمَنُوا } أي أقَرُّوها بتحريمها { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } أي ثم دَاوَمُوا على ذلك وضَمُّوا إلى ذلك الإحسانَ في العملِ.

وَقِيْلَ: أرادَ بالاتقاءِ الأول: اتقاءُ جميع المعاصِي فيما مضَى، وأراد بالثانِي: اتقاءُ المعاصي في المستقبلِ، وأراد بالثالثِ: اتقاءُ ظُلمِ العباد في المعاملاتِ. وَقِيْلَ: أرادَ بقوله: (إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ) إذا ما اجتَنبوا شُربَ الخمرِ بعد تحريمها وصدَّقوا بتحريمها، { ثُمَّ اتَّقَواْ } سائرَ المعاصي، وأقرُّوا بتحريم ما يحدُثُ تحريمهُ من بعد مجانبته، ثم جَمعوا بين اتِّقاء المعاصي وإحسانِ العمل والإحسان إلى الناسِ.

السابقالتالي
2