الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ }؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي فِنْحَاصَ بْنِ عَازُورَاءَ الْيَهُودِيِّ وَأصْحَابهِ، كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ بَسَطَ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، فَكَانَ مِنْ أخْصَب النَّاسِ، وأكْثَرِهِمْ خَيْراً وَأمْوَالاً، فَلَمَّا عَصَوا اللهَ تَعَالَى فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبَالَغُوا فِي تَكْذِيبهِ، كَفَّ اللهُ عَنْهُمْ بَعْضَ الَّذِي كَانَ بَسَطَ عَلَيْهِمْ، فَعِنْدَ ذلِكَ قَالُوا: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ). أي قالُوا على سبيل الْهُزْءِ: إنَّ إلهَ مُحَمَّدٍ الذي أرسلَهُ ممسكةٌ يده عنانَ الرزقِ لا يبسطُ علينا كما كان يبسطُ. وهذا اللفظُ في كلامِ العرب عبارةٌ عن البخلِ، كما قال تعالى:وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [الإسراء: 29] أي لا تمسكها عن الإنفاقِ.

قال بعضُهم: إنما قالَ هذه المقالةَ فِنْحَاصُ ولم ينهَهُ الآخرون، ورَضُوا بقولهِ فأشرَكهم اللهُ فيها، وأرادوا باليدِ العطاءَ، لأن عطاءَ الناسِ وبذلَهم في الغالب بأيديهم، فاستعملَ الناسُ اليدَ في وصفِ الناسِ بالجودِ والبُخل. ويقالُ للبخيلِ: جَعْدُ الأَنَامِلِ؛ مقبوضُ الكفِّ؛ مكفوفُ الأصابعِ؛ مغلولُ اليدَين، قال الشاعرُ:
كَانَتْ خُرَاسَانُ أرْضاً إذ يَزِيدُ بهَا   وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحُ
فَاسْتُبْدِلَتْ بَعْدَهُ جَعْداً أنَامِلهُ   كَأَنَّمَا وَجْهُهُ بالْخَلِّ مَنْضُوحُ
وقولهُ تعالى: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } جوابٌ عن كلامِهم على طريقِ المقابلَة في الازدواجِ؛ أي أمسِكَتْ أيديهم عن الإنفاقِ في الخيرِ، وجُعِلُوا بُخلاءَ واليهودُ أبْخَلُ الناسِ، ولا أمَّةٌ أبخلُ منهم. ويقال: معنى { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } أي غُلَّت إلى أعناقِهم في نار جهنم، ويقال: لا يخرجُ يهوديٌّ من الدنيا إلاّ وتصيرُ يدهُ مغلولةً إلى عنقه.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } أي عُذِّبوا بالجزيةِ، وطُردوا عن رحمةِ الله تعالى لقولهم: { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ }.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }؛ عبارةٌ عن الجودِ وكثرة العطيَّة لِمَن يشاءُ، كما يقالُ: فلان بَسْطُُ اليدَين، وبَاسِطُ اليدين إذا كان جَواداً يعطي يَمنَةً ويَسرَةً، وعن ابنِ عباس: (أنَّ مَعْنَاهُ: بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، وأرادَ نعمةَ الدينِ والدنيا، وَقِيْلَ: نعمتهُ الظاهرةُ ونعمته الباطنة. وَقِيْلَ: أراد بالتثنيةِ في هذا للمبالغةِ في صفة النعمةِ. قال الأعشى:
يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ   وَكَفٌّ إذا مَا ضَنَّ بالْمَالِ تُنْفِقُ
وهذا كلُّه لأنَّ اليهود قصَدُوا تبخيلَ اللهِ، فحوسِبُوا على قدر كلامهم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ }؛ دليلٌ على أن المرادَ بجواب اليهود بيانُ بسطِ النعمة، وأنَّ اللهَ يرزقُ كيف يشاءُ بحسب المصالحِ، فربَّما كان الصلاحُ في أن يعتَبروا، وربَّما كان في أن يُوسِّع، ولا يخلو حُكمه عن الحكمةِ.

واعلم أن اليدَ في اللغة تتصرفُ على وجوهٍ؛ منها: الجارحةُ وهي معروفةٌ، وتعالَى اللهُ عن الجوارحِ. ومنها: النعمةُ كما يقال: لفلانٍ علَيَّ يدٌ؛ أي نعمةٌ. ومنها: القوةُ كما قال تعالى:أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ }

السابقالتالي
2