الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ }؛ أوَّلُ هذه الآيةِ راجعٌ إلى صفةِ اليهود والمنافقين الذين سبقَ ذِكرُهم، والفائدةُ في إعادةِ وَصفِهم بسمَّاعِين للكذب: بيانُ أنَّهم إنما يستحقُّوا الخزيَ بإصرارهم على الكذب واستماعهِ، وضمِّهم إلى ذلك السُّحْتَ.

واختلَفُوا في المرادِ بالسُّحْتِ، فقال ابنُ مسعودٍ والحسنُ: (أرَادَ بهِ الرِّشْوَةَ عَلَى الْحُكْمِ) وقال عليٌّ وأبو هريرةَ: (هُوَ الرِّشْوَةُ عَلَى الْحُكْمِ؛ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ؛ وَعَسْبُ التَّيْسِ؛ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ؛ وَثَمَنُ الْخَمْرِ).

والسُّحْتُ: اسمٌ لما لا يَحِلُّ أخذهُ، وأصلُ السُّحتِ من الهلاكِ، يقال: سَحَتَهُ وَأسْحَتَهُ؛ إذا اسْتَأْصَلَهُ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [طه: 61] أي يُهْلِكَكُمْ، وسُمِّيَ الحرامُ سُحتاً؛ لأنه يؤدِّي إلى الهلاكِ والاستئصالِ.

وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: " " كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أوْلَى بهِ " قِيلَ: مَا السُّحْتُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ " " وعن مسروقِ عن ابن مسعودٍ قال: ((الرِّشْوَةُ سُحْتٌ، قُلْتُ لَهُ: فِي الْحُكْمِ؟ قَالَ: لاَ؛ ذاكَ الْكُفْرُ؛ ثُمَّ قَرَأوَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [المائدة: 44])). وأرادَ بهذا استحلالَ الرِّشوة وجَحْدَ الحقِّ.

والرشوةُ تنقسمُ على وجوهٍ؛ منها: الرشوةُ على الحكمِ، وذلك حرامٌ على الرَّاشِي والمرتَشِي؛ لأنه لا يخلُو إمَّا ليحكمَ له الحاكمُ بحقِّه، فيكون المرتشِي آخِذاً للأُجرةِ على أداءِ ما هو فرضٌ عليه، ويكون الرَّاشي مُحَاكِماً إلى مَن لا يصلحُ للحكمِ ولا ينفذُ حُكمه، وإما أنْ يرشِي فيقضِي له بما ليس له بحقٍّ، فيكون الإثمُ أعظمَ ويفسق الحاكمُ من وجهين، وكذلك المرتشي، والرَّائِشُ: أرادَ بالرائش الذي يمشِي بينهما.

ومنها: الرشوةُ في غيرِ الحكم، كما رُوي عن وهب بن منبه: (أنَّهُ قِيْلَ لَهُ الرِّشْوَةُ حَرَامٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: إنَّمَا نَكْرَهُ أنْ تَرْشِي لِتُعْطَى مَا لَيْسَ لَكَ، أوْ تَدْفَعَ حَقّاً لَزِمَكَ، فَأَمَّا أنْ تَرْشِي لِتَدْفَعَ عَنْ دِينِكَ وَدَمِكَ وَمَالِكَ، فَلَيْسَ بَحَرامٍ، وَإنَّمَا الإثْمُ عَلَى الْقَابضِ).

قرأ عاصمُ ونافع وحمزة وابن عامر: (للسُّحْتِ) بضم السين وجزمِ الحاء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمِّهما جميعاً، وقرأ أبو العبَّاس: (للسَّحْتِ) بفتح السِّين وجزم الحاء، وقرأ عُبيد بن عمر: (للسِّحْتِ) بكسر السين وجزم الحاء، وكلُّه بمعنى واحدٍ وهو الحرامُ.

وَقِيْلَ: يقال رجلٌ مَسْحُوتُ المعِدَةِ؛ إذا كَانَ أكُولاً لاَ يُلْفَى أبَداً إلاَّ جَائِعاً، قِيْلَ: نزَلت هذه الآيةُ في حكَّام اليهودِ كعب بن الأشرفِ وأمثالهِ، كانوا يرتَشُون ويقضُون لمن رشَاهُم. وعن الحسنِ في قوله: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِب أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قال: (ذلِكَ الْحُكَّامُ؛ يَسْمَعُ كَذِبَهُ وَيَأْخُذُ رشْوَتَهُ، فَيَكُونُ الْحَاكِمُ قَدْ سَمِعَ الدَعْوَةَ الْكَاذِبَة وَيَأْكُلُ رشْوَتَهُ).

ورُوي: أنَّ مسروقاً شَفَعَ لرجُلٍ في حاجةٍ، فأهدَى له جاريةً، فغضِبَ غَضباً شديداً وقال: لَوْ عَلِمْتُ أنَّكَ تَفْعَلُ هَذا مَا تَكَلَّمْتُ فِي حَاجَتِكَ وَلاَ أتَكَلَّمُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ حَاجَتِكَ، سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: يَقُولُ: ((مَنْ شَفَعَ فِي حَاجَةٍ لِيَرُدَّ بهَا حَقّاً أوْ يَدْفَعَ بهَا ظُلْماً فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ سُحْتٌ)، فَقِيلَ لَهُ: يَا أبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَرَى ذلِكَ إلاَّ أخْذ رشْوَةٍ عَلَى الحُكْمِ؟ فَقَالَ: (الأَخْذُ عَلَى الْحُكْمِ كُفْرٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:

السابقالتالي
2