الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } * { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذَلِكَ أنَّ مُوسَى عليه السلام غَضِبَ مِنْ مَقَالَةِ قَوْمِهِ، وَكَانَ رَجُلاً حَدِيْداً فَقَالَ: { رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي } ولا أمْلِكُ إلاَّ أخِي، يعني لا يُطِيْعُنِي مِن هؤلاءِ إلاَّ أخِي هَارُونُ، { فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي اقْضِ وَافْصِلْ بيننا وبينَ القوم العَاصِيْنَ.

وكَانَتْ عَجَلَةً عَجَّلَهَا مُوسَى عليه السلام، فأوحَى الله إلى موسى: إلَى مَتَى يَعْصِيني هذا الشعبُ وإلى متَى لا يُصَدِّقُونَ بالآياتِ، لأُهْلِكَنَّهُمْ وَاجْعَلَنَّ لكَ شَعْباً أشَدَّ وأكثرَ منهم. فقال: إلَهِي لو أنَّكَ أهلكتَ هذا الشَّعبَ من أجْلِ أنَّهم لن يستطيعُوا أن يدخلوا هذه الأرضَ فتقتلُهم في البَرِّيَةِ وأنت عظيمٌ عَفْوُكَ كثيرٌ نِعْمَتُكَ وأنتَ تغفرُ الذنوبَ، فَاغْفِرْ لَهم.

فقال اللهُ تَعَالَى: قد غَفَرْتُ لَهم بكلمتِكَ، ولكن بَعْدَمَا سَمَّيتَهُمْ فاسِقينَ، وَدَعَوْتَ عليهم في عجلة لأُحَرِّمَنَّ عليهم دخولَ الأرضِ المقدَّسةِ، فذلك قولهُ: { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ }؛ يَتَحَيَّرُونَ؛ { فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }.

وَقِيْلَ: إنَّ قولهم لموسَى: { فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } كان سُؤَالاً منه الفَرْقَ في الحقيقةِ دون القضاء، وكان دعاؤُه مُنْصَرِفاً إلى الآخرةِ، أي أدْخِلْنَا الجنَّةَ إذا أدخلتَهم النارَ، ولم يَعْنِ بذلك في الدُّنيا؛ لأنه لو عَنَى ذلكَ لأجاب الله تعالى دُعَاءَهُ وأهلكَهم جميعاً؛ لأنَّ دعاءَ الأنبياءِ لا يُرَدُّ من أجلِ أنَّهم يدعونَ بأمرِ الله تعالى.

ويقالُ: كان هذا دعاءً راجعاً إلى الدُّنيا، وقد أجابَ اللهُ تعالى دعاءَه؛ لأنَّهُ عاقبَ قومَهُ في التِّيْهِ، ولم يكن موسَى وهارون محبوسَين في التِّيْهِ؛ لأن الأنبياءَ علَيْهِمُ السَّلاَمُ لا يعذبون. قال الحسنُ: (لاَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُوسَى مَعَهُمْ فِيْهَا لاَ حَيّاً وَلاَ مَيِّتاً، ولاَ يجُوزُ إذا عَذبَ اللهُ بنَبيٍّ إلاَّ أنْ يُنَجِّيَ ذلِكَ النَّبيَّ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ). ويقالُ: إنَّ هذا الدُّعاء كان مِن موسى عليه السلام عندَ الغَضَب؛ لأنه عنى به الحقيقة، ألا ترى أنه نَدِمَ على دعائه وجزِعَ من تحريم قرية الجبارين عليهم جزعاً شديداً حتى قيل له: لا تأس على القوم الفاسقين.

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي قال اللهُ تعالى: فإنَّ الأرضَ المقدَّسةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ؛ أي هم مَمْنُوعُونَ من دخولِها أربعينَ سنةً، وأصْلُ التَّحْرِيْمِ الْمَنْعُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } [القصص: 12] وأرادَ: به الْمَنْعَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } أي يَتَحَيَّرُونَ. قال ابنُ عبَّاس: (يَتَحَيَّرُونَ فِي سِتَّةِ فَرَاسِخَ أرْبَعِيْنَ سَنَةً، كَانُوا يَسِيْرُونَ فِي أوَّلِ النَّهَار فَيُمْسُونَ فِي مَكَانِهِمْ، وَيَسِيْرُونَ فِي أوَّلِ اللَّيْلِ، فَتَدُورُ بهِمُ الأَرْضُ فَيُصْبحُونَ فِي مَكَانِهِمْ). قال الحسنُ: (عَمِيَ عَلَيْهِمُ السَّبيْلَ وَأخْفِيَ عَلَيْهِمُ الأعْلاَمُ الَّتِي يَهْتَدُونَ إلَى الطَّرِيْقِِ فَلَمْ يَسْتَطِيْعُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا).

السابقالتالي
2 3