قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ }؛ أوَّلُ هذه الآيةِ معطوفٌ على قولهِ:{ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } [المائدة: 110] ويجوزُ أن يكون عَائداً على ما تقدَّم من قولهِ:{ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [المائدة: 109] كأنه قالَ: إذ يقولُ الله يومَ القيامةِ، وفي آخرِ السُّورة ما يدلُّ على هذا، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى:{ قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119] وذكرَ اللفظَ على صيغةِ الماضي؛ لتحقُّقِِ أمرهِ كأنه قد وقَعَ وشُوهِدَ، ونظيرهُ{ وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [الأعراف: 44] وقوله:{ وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ } [إبراهيم: 22] أي سيَقُولُ. وقال السديُّ وقطرب: (إنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِعِيسَى عليه السلام هَذا الْقَوْلَ حِينَ رَفَعَهُ)، واحتجَّا بقولهِ:{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } [المائدة: 118]، ولا خلافَ أنَّ الله لا يَغفِرُ لِمُشرِكٍ ماتَ على شِركهِ، وإنما معنى الآية: وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بتَوْبَتِهِمْ. وقال أكثرُ المفسِّرين: إنَّما يقولُ الله تعالى هذه المقالةَ يوم القيامةِ، بدليلِ ما ذكَرنا من قولهِ:{ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [المائدة: 109]،{ يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119]، فإن قالوا (إذْ) للماضي، قُلنا قد تكون بمعنى (إذا) كقوله:{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } [سبأ: 51] أي إذا فَزِعوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } يعني أأنتَ قُلتَ لَهم في الدُّنيا: { ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ }؟ فإنْ قيلَ: ما وجهُ سؤالِ الله تعالى لعيسَى مع علمهِ بأنه لم يقُلْ؟ قِيْلَ: ذلكَ توبيخٌ لقومِ عيسى وتحذيرٌ لهم عن هذه المقالةِ. وَقِيْلَ: أرادَ الله بذلك أن يُقِرَّ عيسَى بالعبوديَّة على نفسهِ، فيظهرُ منه تكذيبُهم بذلك، فيكون حجَّةً عليهم. قال أبو رَوْقٍ وميسرةَ: (إذْ قَالَ اللهُ لِعِيسَى عليه السلام: أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ، وَانْفَجَرَتْ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ عَيْنٌ مِنَ الدَّمِ). ثُمَّ يَقُولُ عِيسَى عليه السلام مُجيباً اللهَ عَزَّ وَجَلَّ: { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }؛ أي تَنزيهاً لكَ يا رب، ما ينبغِي لي أن أدَّعي شيئاً لستُ بجديرٍ له، { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي }؛ عندي وما في ضَمِيري، وما كان منِّي في الدُّنيا، { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }؛ غَيبكَ، { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }؛ لا يعلمُ الغيبَ أحدٌ غيرُكَ. وَقِيْلَ: معناهُ: تعلمُ ما أريدُ، ولا أعلمُ ما تريدُ، { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } أي ما كانَ وما يكون. وأمَّا ذِكْرُ النفسِ في قوله: { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } فعلى من أوجُه الكلامِ: بأن الغيبَ من اللهِ تعالى في حُكمِ الضميرِ من الآدميِّين، والنَّفْسُ في كلامِ العرب على ضُروب؛ تُذكَرُ ويرادُ بها ذاتُ الشيءِ، كما يقالُ: جاءَني زيدٌ نفسُه؛ أي ذاتهُ، وقتَلَ فلانٌ نفسَهُ، وأهلَكَ فلان نفسَهُ، ويرادُ بذلك الذاتُ بكمالِها.