الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } * { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ }؛ أوَّلُ هذه الآيةِ يدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى منعَ أيدِي أهلِ مكَّة يومَ الحديبيةِ عن قتالِ المسلمين بالرُّعب، ومنعَ أيدينا عن قتالِهم بالنَّهي.

وَقِيْلَ: إنَّ المؤمنين لم يُنهَوا عن قتالِهم يومئذٍ، ولكن لم يقدِّرْ الله ذلك للمؤمنين إبقاءً للمؤمنين المستضعَفين الذين كانوا في أيدِي المشركين كما قال تعالى: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ }.

وقولهُ تعالى: { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } ، قال أنسُ رضي الله عنه: (وَذلِكَ أنَّ ثَمَانِينَ رَجُلاً مِنْ أهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبيَةِ، فَأَخَذهُمْ رَسُولُ اللهِ وَأعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ) { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ }.

وقال ابنُ عبَّاس: (بَعَثَتْ قُرَيْشُ أرْبَعِينَ رَجُلاً أوْ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ، وَأمَرُوهُمْ أنْ يَطُوفُواْ بعَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبيَةِ لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أصْحَابهِ أحَداً، فَأُخِذُواْ فَأُتِيَ بهِمْ رَسُولُ اللهِ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَخَلَّى سَبيلَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوا فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ بالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أي همُ الذين كفَرُوا بمُحَمَّدٍ والقرآنِ، يعني كفَّارَ مكة، وصَدُّوكم عن المسجدِ الحرام أن تطُوفوا به للعُمرة ويحلوا من عمرتِكم.

وقولهُ تعالى { وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً } أي وصَدُّوا الهديَ مَمْنُوعاً أن يبلغَ مَحِلَّهُ الذي إذا صارَ إليه حلَّ نحرهُ وهو الحرمُ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ساقَ في ذلك العام سَبعين بَدْنَةً إلى مكَّة. { مَعْكُوفاً } في اللغة هو الممنوعُ عن الذهاب في جهته بالإقامةِ في مكانه، يقالُ: عَكَفَ على الأمر عكوفاً، واعْتَكَفَ في المسجدِ إذا أقامَ به.

ومعنى الآيةِ: هم الذين كفَرُوا وصدُّوكم عن المسجدِ الحرام، وصدُّوا الهديَ وهي البُدْنُ التي ساقَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكانت سَبعين بَدْنَةً معكوفاً أي مَحْبُوساً أن يبلُغَ مَحِلَّهُ أي مسجدَهُ، وهذه الآيةُ دلالةٌ على أن محِلَّ الهدي الحرمُ، ولو كان محلهُ غيرُ الحرمِ لَمَا كان مَعْكُوفاً عن بلوغِ محلَّه.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ }؛ معناهُ: ولو تطَأُوا رجالاً مُؤمِنين ونساءً مُؤمِنات مُقِيمَات بمكَّة لم تعلَمُوهم فتقتلوهم، { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ }؛ قِبَلَهم، { مَّعَرَّةٌ }؛ أي عَيْبٌ ومسَبَّة في العرب بأنَّكم قتَلتُم أهلَ دينِكم، ويقالُ: أراد بالْمَعَرَّةِ الغَمَّ والجزعَ. وجوابُ (لَوْلاَ) محذوفٌ تقديرهُ: لولا ذلك لدَخلتُم على أهلِ مكَّة ولوطأتموهم لَيْلاً ولضَربتُم رقابَ المشركين بنَصرِنا إيَّاكم، ولكنَّ اللهَ منعَ من ذلك كراهةَ وطئِ المؤمنين المستضعَفين الذين كانوا بمكَّة، والمؤمناتِ بالقتلِ لأنَّهم لو دخَلُوا مكَّة لم يتميَّز لهم المؤمنون من الكفَّار، فلم يأْمَنوا أن يَقتُلوا المؤمنين.

السابقالتالي
2