الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ }؛ أي لا يستوِي في الفَضْلِ والثَّواب القاعدونَ عنِ الجهادِ من المؤمنين الأصحَّاء؛ الذين لا ضَرَرَ بهم من المرضِ والزَّمَانَةِ؛ ولا عُذْرَ يَمنعُهم من الجهادِ، { وَٱلْمُجَٰهِدُونَ }؛ في طاعةِ الله بالإنفاقِ من أموالِهم والخروج بأنفُسِهم.

رويَ: أنَّهُ نَزَلَ أوَّلاً (لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ) فَجَاءَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ وَرَجُلٌ آخَرُ مَعَهُ وَهُمَا أعْمَيَانِ، فَقَالاَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أمَرَ اللهُ بالْجِهَادِ وَفَضَّلَ الْمُجَاهِدِيْنَ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ، وَحَالُنَا عَلَى مَا تَرَى، فَهَلْ لَنَا مِنْ رُخْصَةٍ؟ وَاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَجَاهَدْنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } أي غير أولي الضرر فِي الْبَصَرِ، فَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الأجْرِ مَا لِلْمُجَاهِدِيْنَ.

وروَى ابنُ أبي لَيْلَى؛ قال: (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ) قَالَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ: اللَّهُمَّ أنْزِلْ عُذْري، فَنَزَلَ قَوْلُهُ { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } فَوُضِعَتْ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ بَعْدُ ذلِكَ يَغْزُو وَيَقُولُ: إدْفَعُواْ إلَيَّ اللِّوَاءَ؛ وَيَقُولُ: أقِيْمُونِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ).

وعن زيد بن ثابت قال: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، وَقَدْ أمْلَى عَليَّ قَوْلُهُ: { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فَعَرَضَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ فَثَقُلَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِهِ حَتَّى كَادَتْ تَنْحَطِمُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ }.

ومَن قرأ (غَيْرَ أوْلِي الضَّرَر) بالنصب فهو نصبٌ على الاستثناءِ، كأنَّهُ قالَ: إلاَّ أوْلِي، كما يقالُ: جاءَنِي القومُ غيرَ زيدٍ. ويجوزُ أن يكونَ على الحالِ؛ أي لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ وَالمُجَاهِدُونَ، وهذا كما يقالُ: جاءَنِي زيدٌ غيرَ مريضٍ؛ أي صَحِيْحاً.

ومن قرأ (غَيْرُ) بالرفعِ، فيجوزُ الرفعُ في استثناءِ الإثباتِ من النَّفي، ويجوزُ أن يكونَ (غَيْرُ) صفةٌ للقاعدين، وإنْ كان أَصلُ (غَيْرُ) أن تكونَ صفةً كما هو نكرةٌ. المعنى: لاَ يَسْتَوِي القاعدونَ الذي هُم غَيْرُ أولِي الضَّرَر والْمُجَاهِدُونَ في الفَضْلِ والثَّواب، وإن كانوا كلُّهم مؤمنين.

واختارَ بعضُهم قراءةَ الرفعِ؛ لأنَّ معنى الصِّفةِ على لفظةِ (غَيْرُ) أغلبُ من معنى الاستثناء، واختارَ بعضُهم قراءةَ النصب لأن قولَه { غَيْرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ } نزلَ بعد قولهِ: (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سبيلِ اللهِ) فيكونُ معنى الاستثناءِ به ألْيَقُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ دَرَجَةً }؛ أي فَضِيْلَةً ومَنْزِلَةً؛ { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ }؛ أي وُكِلاَ الفريقين الْمُجَاهِدُ والقاعدُ وعدَهم اللهُ الْحُسْنَى يعنِي الْجَنَّةَ بالإيْمان. وفي هذا دليلٌ أنَّ الجهادَ فرضٌ على الكفايةِ؛ لأنه لو كان فَرْضاً على الأعيانِ لَمْ يَجُزْ أن يكونَ القاعدُ عنه موعودٌ بالْحُسنى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلْمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَٰعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً }؛ أي فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهدين على القاعدينَ عنِ الجهادِ بغيرِ عُذر ثواباً حَسَناً في الجنَّة، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أجْراً) نُصِبَ على التَّفسيرِ. وقال الأخفشُ: (عَلَى الْمُقَدَّر؛ تَقْدِيْرُهُ: آجَرَهُمُ اللهُ أجَراً).

والفائدةُ في تكرار لفظ التفضِيل: أنَّ في الأول بيانُ تفضيلِ مَن جاهدَ بالمال والنفسِ جميعاً؛ وفي آخرِ الآية بيانُ تفضيلِ الْمُجَاهِدِ مُطْلقاً، ويدخلُ فيه الْمُجَاهِدُ بالمالِ والنَّفْسِ، والْمُجَاهِدُ بالمالِ دونَ النفس، وبالنفس دونَ المالِ.