الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا }؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ خَبَابَةَ؛ وَجَدَ أخَاهُ قَتِيْلاً فِي بَنِي النَّجَّار؛ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذلِكَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً مِنْ بَنِي فِهْرٍ، وَقَالَ لَهُ: " إئْتِ بَنِي النَّجَار فَأَقْرِئْهُمْ مِنِّي السَّلاَمَ؛ وَقُلْ لَهُمْ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأَمُرُكُمْ إنْ عَلِمْتُمْ قَاتِلَ هِشَامَ أنْ تَدْفَعُوهُ إلَى مَقِيْسٍ يَقْتَصُّ مِنْهُ، وَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا لَهُ قَاتِلاً أنْ تَدْفَعُواْ إلَيْهِ دِيَّتَهُ " فَأَبْلَغَهُمُ الْفِهْرِيُّ ذلِكَ، فَقَالُواْ: سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ؛ وَاللهِ مَا نَعْلَمُ لَهُ قَاتِلاً؛ وَلَكِنَّا نُؤَدِّي دِيَتَهُ، فَأَعْطَوْهُ مَائِةً مِنَ الإبلِ، وَانْصَرَفَا رَاجِعَيْنِ نَحْوَ الْمَدِيْنَةِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَدِيْنَةِ قَرِيْبٌ، فَوَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إلَى مِقْيَسٍ وَقَالَ لَهُ: أيُّ سَبَبٍ صَنَعْتَ بقَبُولِ دِيَّةِ أخِيْكَ فَتَكُونَ عَلَيْكَ سُبَّةٌ، أقْتُلِ الَّذِي مَعَكَ تَكُونُ نَفْسٌ مَكَانَ نَفْسٍ وَفَضْلَ الدِيَّةِ، فَرَمَى الْفِهْرِيَّ بصَخْرَةٍ فَشَدَخَ رَأَسَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيْراً مِنْهُمَا وَسَاقَ بَقِيَّتَهَا رَاجِعاً إلَى مَكَّةَ كَافِراً، وَجَعَلَ يَقُولُ:
قَتَلْتُ بهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ   سُرَاةَ بَنِي النَّجَّار وَأرْبَابَ فَارعِ
فَأَدْرَكْتُ ثَأْري وَاضْطَجَعْتُ مُوسَّداً   وَكُنْتُ إلَى الأَوْثَانِ أوَّلَ رَاجِعِ
فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ، وَقُتل مِقيَسُ يومَ فتحِ مكَّة.

ومعناها: ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً في قلتهِ مُسْتَحِلاًّ لَهُ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيْهَا باستحْلالهِ لَهُ وارتدادهِ عن إسلامهِ، { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ }؛ بقَتْلِهِ غيرَ قاتلِ أخيهِ؛ { وَلَعَنَهُ }؛ أي بَاعَدَهُ من رحمتهِ، { وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }؛ بجُرْأتِهِ على اللهِ بقتلِ نفسٍ بغير حقٍّ.

واختلفَ الناسُ في حُكْمِ هذه الآيةِ، قالتِ الخوارجُ والمعتزلة: (إنَّهَا فِي الْمُؤْمِنِ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً، وَهَذا الْوَعِيْدُ لاَحِقٌ بهِ). وقالت المرجئةُ: (إنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ قَتَلَ مُؤْمِناً، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً فَإنَّهُ لاَ يُخَلَّدُ فِي النَّار).

وقالت طائفةٌ من أصحاب الحديث: كُلُّ مُؤْمِنٍ قَتَلَ مُؤْمِناً فَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّار غَيْرَ مُؤَبَّدٍ يُخْرَجُ بشَفَاعَةِ الشَّافِعِيْنَ، وَزَعَمَتْ: أنَّهُ لاَ تَوْبَةَ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً.

والصحيحُ: أنَّ المؤمنَ إذا قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً لا يَكْفُرُ بذلك ولا يخرجُ من الإيْمانِ؛ إلاَّ إذا فَعَلَ ذلك مُسْتَحِلاً لهُ، فإنْ أقِيدَ بمن قتلَه فذلك كفارةٌ له، وإن كان تائِباً من ذلك ولم يكن مُعَاداً كانت التوبةُ أيضاً كفَّارةً له، فإنْ ماتَ بلا توبةٍ ولا قَوْدٍ فأمرهُ إلى الله؛ إنْ شاءَ غفرَ لهُ وإن شاءَ عذبه على فعلهِ ثم يخرجهُ بعد ذلك إلى الجنَّةِ التي وعدَهُ بإيْمَانهِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُخْلِفُ الميعادَ، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعيدِ يكونُ منه تَفَضُّلاً، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعدِ يكونُ خِلْفاً، تعالَى اللهُ عن الخلفِ عُلُوّاً كبيراً.

والدليلُ على أنَّ المؤمنَ لا يصيرُ بقتلهِ المؤمنَ كافراً، ولا خارجاً عن الإيْمان قَوْلُهُ تَعَالَى:

السابقالتالي
2 3