الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }

قولُهُ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً }؛ الآيةُ، قال ابنُ عبَّاس: " كَانُواْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأوَّلِ الإسْلاَمِ إذا مَاتَ رَجُلٌ وَلَهُ امْرَأةٌ؛ جَاءَ ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا أوْ قَرِيْبُهُ مِنْ عَصَبَتِهِ الَّذِي يَرِثُهُ، فَأَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ فَورثَ نِكَاحَهَا بِصِدَاقِ الأَوَّلِ، يَقُولُ: أنَا وَلِيُّ زَوْجِكِ فَوَرثْتُكَ، فإنْ كَانَتْ جَمِيْلَةً أمْسَكَهَا وَدَخَلَ لِهَا، وَإنْ لَمْ تَكُنْ جَمِيْلَةً طَوَّلَ عَلَيْهَا لِتَفْتَدِيَ بنَفْسِهَا مِنْهُ بَما تَرِثُ مِنَ الْمَيِّتِ أوْ تَمُوتَ فَيَرِثُهَا، فَإنْ ذَهَبَتْ إلَى أهْلِهَا قَبلَ أنْ يُلْقِيَ عَلَيْهَا ثَوْبَهُ فَهِيَ أحَقُّ بنَفْسِهَا.

فَكَانُواْ يَفْعَلُونَ ذلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ أبو قَيْسِ بْنِِ الأَسْلَتِ، وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ كَبْشَةَ بنْتِ مَعَنِ الأَنْصَاريَّةَ، فَقَامَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهَا يُقَالُ لهَ حُصَيْنُ بْنُ أبي قَيْسٍ؛ فَطَرَحَ ثَوْبَهُ عَلَيْهَا فَوَلِيَ نِكَاحَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا وَلَمْ يَقْرَبْهَا وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا فَضَارَّهَا بذلِكَ لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بمَالِهَا، فَأَتَتْ كَبْشَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إنَّ أبَا قَيْسٍ تُوُفِّيَ وَوَرثَ ابْنُهُ نِكَاحِي؛ وَقَدْ أضَرَّنِي وَطَوَّلَ عَلَيَّ، فَلاَ هُوَ يُنْفِقُ عَلَيَّ، وَلاَ هُوَ يُخْلِيَ سَبيْلِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أقْعُدِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَأْتِينِي فِيْكِ أمْرُ اللهِ " فَانْصَرَفَتْ، وَسَمِعَ بذلِكَ نِسَاءُ الْمَدِيْنَةِ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ عليه السلام فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئَةِ كَبْشَةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".

ومعناهَا: يا أيُّها الذينَ أقَرُّوا وصَدَّقُوا لا يَحِلُّ لكم أنْ تَرِثُوا النساءَ جَبْراً؛ { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ }؛ أي لاَ تَمْنَعُوهُنَّ تَخْلِيَةَ سبيلهنَّ حتى يَفْتَدِيْنَ ببعضِ ما لَهُنَّ؛ { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ }؛ فَحِيْنَئِذٍ يحلُّ لكم ضِرَارُهُنَّ ليفتدينَ منكُم، وهو أنَّها إذا زَنَتِ المرأةُ جازَ لزوجِها أن يسألَها الْخُلْعَ.

قال عطاءُ: (كَانَ الرَّجُلُ إذا زَنَتِ امْرَأتُهُ أخَذ مِنْهَا مَا يُسَاقُ إلَيْهَا وَأخْرَجَهَا، فَنَسَخَ اللهُ ذلِكَ بالْحُدُودِ). قال قتادةُ والضحَّاك: (الْفَاحِشَةُ النُّشُوزُ؛ يَعْنِي إذا نَشَزَتِ الْمَرْأةُ حَلَّ لِزَوْجِهَا أنْ يَأْخُذ مِنْهَا الْفِدْيَةَ). وقَوْلُهُ تَعَالَى: (مبَينَةٍ)؛ بخفضِ الياء أي مُبَيِّنَةِ فُحشِها.

قرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلف والأعمشُ: (كُرْهاً) بضمِّ الكاف هُنا وفي التوبةِ، وقرأ الباقون بالفتحِ وهُما لغتان. وعن الضحَّاك: (أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ فِي حِجْرِهِ يَتِيْمَةٌ؛ فَيَكْرَهُ أنْ يُزَوِّجَهَا لِمَالِهَا، فَيَتَزَوَّجُهَا لأَجْلِ مَالِهَا، أوْ يَكُونَ تَحْتَهُ عَجُوزٌ، وَنَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى شَابَّةٍ فَيَكْرَهُ فِرَاقَ الْعَجُوز وَيَتَوَقَّعُ مَوْتَهَا لِيَرِثَهَا وَهُوَ يَعْزِلُ فِرَاشَهَا).

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ }؛ أمَرَ للأزواجَ بعشرةِ نسائِهم بالْجَمِيْلِ، وهو أن يُوَفِّيَهَا حقَّها من المهرِ والنَّفقةِ والمبيت وتركِ أذاها بالكلام الغليظِ، والإعراضِ عنها والعُبُوسِ في وجهِها بغيرِِ ذنبٍ منها.

قولُهٌ تَعَالَى: { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }؛ فيه بيانُ أنَّ الخيرَّة ربَّما كانت للعبدِ في الصَّبر على ما يكرههُ؛ يقولُ: لعلكم أيُّها الأزواجُ أنْ تكرهُوا صُحْبَتَهُنَّ ويجعلُ الله في ذلك خيراً كثيراً بأن يَرْزُقَكُمْ منهنَّ الأولادَ، فتظهرُ بعد ذلك الأُلْفَةُ والموافقةُ، وتنقلبُ الكراهة صُحْبَةً؛ والنفورُ ميلاً.

السابقالتالي
2