الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ }؛ أي ليس ثوابُ اللهِ تعالى بأمَانِيِّكُمْ، فإنَّ { لَّيْسَ } يقتضِي اسْماً، واختلفُوا في المخاطَبين بهذه الآيةِ. قال قتادةُ والضحَّاك: (إنَّ أهْلَ الْكِتَاب وَالْمُسْلِمِيْنَ افْتَخَرُواْ، فَقَالَ أهْلُ الْكِتَاب: نَبيُّنَا قَبْلَ نَبيِّكُمْ؛ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابكُمْ؛ وَنَحْنُ أوْلَى باللهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أوْلَى باللهِ مِنْكُمْ؛ نَبيُّنَا خَاتَمُ النَّبيِّيْنَ؛ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُب الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةََ).

وقال مجاهدُ: الْمُخَاطَبُونَ بهَا عَبَدَةُ الأوْثَانِ؛ فإنَّهُمْ قَالُواْ: لاَ نُبْعَثُ وَلاَ نُحَاسَبُ، وَقَالَ أهْلُ الْكِتَاب: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَّاماً مَعْدُودَةً، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ }. { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ }؛ ولا يَنْفَعُهُ تَمَنِّيْهِ، والمرادُ بالسُّوءِ الكُفْرُ.

وقال بعضُهم: المخاطَب بها المسلمونَ؛ أي { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } أي ليسَ بأمَانِيِّكُمْ يا معشرَ المسلمين أنْ لا تُؤَاخَذُواْ بسُوءٍ بعد الإيْمانِ، { وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ }: لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ إلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أوْ نَصَارَى، من يعمَلْ معصيةً يُجْزَ بذلكَ ولا ينفعه تَمنِّيه.

روي: أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ؛ قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: " يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَيْفَ الْفَلاَحُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أبَا بَكْرٍ؛ ألَسْتَ تَمْرَضُ؟ ألَسْتَ تَنْصَبُ؟ ألَسْتَ تُصِيْبُكَ الَّلأْوَاءُ؟ " قَالَ: بَلَى، " فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بهِ " ".

وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنهُ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ، فَشَكَواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " قَاربُواْ وَسَدِّدُواْ ". يقالُ: كلُّ ما يصيبُ المؤمنَ كفَّارَةٌ حتى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا في قدميهِ، والنَّكْبَةَ يَنْكَبُّهَا ".

قال عطاءُ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: " هَذِهِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَأيُّنَا لَمْ يَعْمَلُ سُوءاً، وَإنَّا لَمَجْزِيُّونَ بكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟! قَالَ: " إنَّمَا هِيَ الْمُصِيْبَاتُ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا ". فَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا أبْقَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ شَيْءٍ، " أمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ؛ لَكَمَا أنْزِلَتْ؛ وَلَكِنْ يًسِّرُواْ وَقَاربُواْ وَسَدِّدُواْ؛ إنَّهُ لاَ يُصِيْبُ أحَدُكُمْ مُصِيْبَةً فِي الدُّنْيَا إلاَّ كُفِّرَ عَنْهُ بهَا خَطِيْئَةً؛ حَتَّى الشّوْكَةَ يُشَاكُهَا فِي قَدَمِهِ " ".

وقال الحسنُ في قولهِ تعالى: { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } قال (الْكَافِرُ، وَأمَّا الْمُؤْمِنُ فَلاَ يُجَازَى يَوْمَ الْقيَامَةِ إلاَّ بأَحْسَنِ عَمَلِهِ وَيُتَجَاوَزُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) ثُمَّ قَرَأَلِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } [الزمر: 35] وقَرَأوَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } [سبأ: 17].

ولولا السُّنة لأمكنَ أن يقالَ: إنَّ الآيةَ نزلت في الكفَّار؛ لأنَّ في سياقِ الآية: { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }؛ ومَنْ لم يكن لهُ يومَ القيامةِ ولِيٌّ ولا نصيرٌ كان كافراً؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد ضَمِنَ نصرَ المؤمنين في الدَّارَين فقالَ تعالى:إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } [غافر: 51]. ولكنَّ الخطابَ إذا وَرَدَ مُجْمَلاً، وبَيَّنَ الرَّسُولُ عليه السلام كَانَ الْحُكمُ لِبَيَانِهِ لاَ لِلآيَةِ؛ إذِ البَيَانُ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، قال اللهُ تعالى:لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44].