الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } * { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ }؛ أي إنْ كان الأمرُ كما تقولُ فقد ظلمَكَ بما كفَلَكَ من قولهِ عن امرأتِكَ ليتزَوَّجَها هو. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }؛ معناهُ: وإنَّ كثيراً من الشُّركاء لَيظلِمُ بعضُهم بعضاً، ظنَّ داودُ أنَّهما شَريكان. وقولهُ تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }؛ معناهُ: إلاّ الذين آمَنُوا { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }؛ فإنَّهم لا يَظلمُونَ أحَداً، { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ }؛ أي هم قليلٌ، يعني الذين لاَ يظلِمُون.

قال السديُّ: (لما قال أحدُهما: إنَّ هذا أخِي له تسعٌ وتسعون نعجةً، قال داودُ عليه السلام للآخر: ما تقولُ؟ قالَ: نَعَمْ لي تسعٌ وتسعون نعجةً وله نعجةٌ، وأنا أُريد أنْ آخُذها وأكَمِّل نعاجِي مائةً، قال داودُ عليه السلام: وهو كارهٌ؟ قال نعَمْ وهو كارهٌ، قال: إذاً لا ندعُكَ وإنْ رُمْتَ ذلك ضرَبْنا منكَ هذا، وهذا يعني طرفَ الأنفِ، وأصلهُ: الجبهة.

قال: يا داودُ أنتَ أحقُّ أن يُضرب مثلَ هذا، وهذا يعني طرفَ الأنفِ وأصلهُ، حيث كان له تسعٌ وتسعون امرأةً ولم يكن لأوريَّا إلاّ امرأةً واحدة، فلم تزَلْ تُعَرِّضُهُ للقتلِ حتى قُتل وتزوَّجتَ امرأتَهُ. ثم صعدَا إلى السَّماء، فعَلِمَ داودُ عليه السلام أنَّ الله قد ابتلاهُ وامتحنَهُ، فخَرَّ راكعاً أي ساجِداً وأنابَ. ورجعَ إلى طاعةِ الله تعالى بالتَّوبةِ والنَّدامَةِ.

ومعنى قولهِ تعالى: { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ }؛ أي وعَلِمَ داودُ أنَّا امتحنَّاهُ بما قدَّرنا عليه من نظرهِ إلى المرأةِ وافتتانه بها، وهذا قولُ بعضِ المفسِّرين، إلاّ أنَّ هذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ، لاَ يُظَنُّ بدَاوُدَ عليه السلام ضَلاَلَةٌ، فهو أجَلُّ قدرةً وأعظمُ منْزلَةً، وكيف يُظنُّ بالأنبياءِ عليهم السَّلام أن يعرِّضَ المسلمينَ للقتلِ لتحصيل نسائهم لأنفُسِهم، ومَنْ نَسَبَ الأَنْبيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ إلَى هَذا وَصَدَّقَ بهِ فَهُوَ مِمَّنْ لاَ يَصْلُحُ لإيْمَانِهِ بهِمْ، وَلَئِنْ يُخْطِئَ الإنْسَانُ فِي نَفْيِ الْفَوَاحِشِ عَنْهُمْ خَيْرٌ مِمَّنْ يُخْطِئُ فِي إضَافَتِهَا إلَيْهِمْ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الشَّرِيعَةِ بحَمْلِ أُمُور الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أمْكَنَ.

وعن عبدِالله بن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قالَ: (مَا زَادَ دَاوُدُ عليه السلام عَلَى أنْ قَالَ لِزَوْجِهَا: تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا). وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: (لَئِنْ سَمِعْتُ أحَداً يَقُولُ إنَّ دَاوُدَ عليه السلام قَارَبَ مِنْ تِلْكَ الْمَرَأةِ سُواءً أوْ حَدَّثَ بحَدِيثِ دَاوُدَ عليه السلام عَلَى مَا يَرْويهِ الْقُصَّاصُ مُعْتَقِداً صِحَّتَهُ جَلَدْتُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ جَلْدَةً) يعني مثلَ حدِّ قذفِ سائرِ الناس.

وَقِيْلَ: إنَّ ذنبَ داودَ عليه السلام أنه تَمَنَّى أن تكون له امرأةُ أوريا حَلاَلاً، وحدَّثَ نفسَهُ بذلك، فاتفقَ غزوُ أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكهُ، فلما بلغَهُ قتلهُ لم يَجْزَعْ ولم يتوجَّع عليه كما يجزعُ على غيرهِ من جُندهِ إذا هلكَ، ثم تزوَّجَ امرأتَهُ فعاتبَهُ اللهُ على ذلكَ؛ لأن ذنوبَ الأنبياءِ وإن صغُرت فهي عظيمةٌ عند اللهِ.

السابقالتالي
2 3 4