قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ }؛ أي هربَ من قومهِ إلى السفينةِ المملوءَةِ بالناسِ والدواب، وإنما هربَ لأن الله كان أوعدَهم بالعذاب إنْ لم يؤمِنُوا فلم يؤمنوا، وعلِمَ أنَّ العذابَ نازلٌ بهم، فخرجَ من بينِهم من غيرِ أن يأمرَهُ اللهُ تعالى بالخروجِ، فكان ذلك ديناً منه وكان قصدهُ حين خرجَ منهم للمبالغةِ في تحذيرِهم وإنذارهم، فكان بذهابهِ كالفارِّ من مولاهُ، فوُصِفَ بالأبَاقِ. وقولهُ تعالى: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ }؛ وذلكَ أنه لَمَّا رَكِبَ السفينةَ، وقفَتِ السفينةُ ولم تَسِرْ بأهلِها، فقالَ الملاَّحون: ها هُنا عبدٌ آبقٌ من سيِّدهِ، وهذا رسمُ السفينة إذا كان فيها عبدٌ آبقٌ لا تجرِي، واقترَعُوا فوقعتِ القُرعَةُ على يونسَ فقال: أنا الآبقُ، { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ }. قال سعيدُ بن جبير: (لَمَّا اسْتَهَمُوا جَاءَ حُوتٌ إلَى السَّفِينَةِ فَاغِراً فَاهُ يَنْتَظِرُ أمْرَ رَبهِ، كَأَنَّهُ يَطْلُبُ وَاحِداً مِنْ أهْلِهَا، فَقَالَ يُونُسُ: يَا أهْلَ السَّفِينَةِ أنَا الْمَطْلُوبُ مِنْ بَيْنِكُمْ، فَقَالُواْ: أنْتَ أكْرَمُ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ أنْ يَبْتَلِِيكَ بمِثْلِ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: اقْتَرِعُوا فَمَنْ خَرَجَتِ الْْقُرْعَةُ عَلَى اسْمِهِ أُلْقِيَ إلَى الْحُوتِ، وَكَانَ يَعْلَمُ أنَّ الْقُرْعَةَ تَخْرُجُ عَلَيْهِ، إلاَّ أنَّهُ لَمْ يَبْدَأ بإلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَى الْحُوتِ مَخَافَةَ أنْ تَلْحَقَهُ سِمَةُ الْجُنُونِ، فَسَاهَمَ فَوَقَعَ السَّهْمُ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنَ الْمَسْهُومِينَ). وَالْمُدْحَضُ في اللغة: هو المغلوبُ في الحجَّة، وأصلهُ من دَحَضَ الرجلُ إذا نزلَ مِن مكانهِ، فلما أُلقِيَ عليه السُّلَّمُ في البحرِ ابتلعَهُ الحوتُ ابتلاعَ اللُّقمَةِ. وقولهُ تعالى: { وَهُوَ مُلِيمٌ }؛ أي أتَى بما يستحقُّ عليه اللّومَ، والْمَلِيمُ: الآتِي بما يُلائِمُ على مثلهِ، وسببُ استحقاقهِ اللَّومَ خروجهُ من بين قومهِ قبل ورُودِ الإذنِ عليه مِن اللهِ تعالى.