الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا }؛ قال مقاتلُ: (يَعْنِي الْقُرْآنَ)، وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } يريد أُمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

ثم قسَّمَهم ورتَّبَهم فقالَ تعالى: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ }؛ وهو الذي ماتَ على كِبْرِه ولم يَتُبْ عنها، { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ }؛ وهو الذي لَمْ يُصِبْ كبيرةً، { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ }؛ يعني المقرَّبين الذين سبَقُوا إلى أعمالٍ، وقال الحسنُ: (الظَّالِمُ: الَّذِي تَرَجَّحَ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتُهُ، وَالسَّابقُ: مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ).

وعن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " سَابقُنا سَابقٌ " أي إلى الجنَّة أو إلى رحمةِ الله تعالى بالخيراتِ؛ أي بالأعمال الصالحة، { بِإِذُنِ ٱللَّهِ }؛ أي بإرادةِ الله، { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }؛ معناهُ: إيراثُهم الكتابَ هو الفضلُ الكبير، وسُمي إعطاءُ الكتاب إيْرَاثاً لأنَّهم أُعْطُوهُ بغيرِ مسألةٍ ولا اكتساب.

وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُمْ قَالُواْ: " السَّابقُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُونَ يُحَاسَبُونَ حِسَاباً يَسِيراً ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَالظَّالِمُونَ يُحَاسَبُو مَا شَاءَ اللهُ أنْ يُحَاسَبُواْ، ثُمَّ يَرْحَمُهُمُ اللهُ تَعَالَى فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ للهِ الَّّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ... " إلى آخرِ الآيتَين.

وعن الحسنِ أنه قالَ: (السَّابقُ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي أخَذ الْحَلاَلَ، وَالظَّالِمُ الَّذِي لاَ يُبَالِي مِنْ أيْنَ أخَذ). ويقالُ: الظالِمُ صاحبُ الكبائرِ، والمقتصدُ صاحبُ الصَّغائرِ، والسَّابقُ الذي اتقى سيئاته.

فإنْ قيلَ ما الحكمةُ في تقديمِ الظالِم وتأخيرِ السابق؟ قِيْلَ: الواوُ لا توجِبُ الترتيبَ كما قالَ تعالىفَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [التغابن: 2]. وَقِيْلَ: قدَّمَ الظالِمَ لئَلاَّ ييأسَ من رحمتهِ، وأخَّرَ السابقَ لئَلا يُعجَبَ بنفسهِ. وَقِيْلَ: قدَّمَ الظالِمَ فإذا لَم يكن له شيءٌ يتَّكِلُ عليه إلاَّ رحمةُ الله تعالى، وثَنَّى بالمقتصدِ لِحُسنِ ظنِّهِ بربه. وَقِيْلَ: لأنه بين الخوفِ والرَّجاءِ، وأخَّرَ السابقَ لأنه اتَّكَلَ على حسَناتهِ. وَقِيْلَ: لئلا يأمَنَ أحدٌ مَكْرَهُ، وكلُّهم في الجنَّة بُحرَمِة كلمةِ الإخلاصِ.

وعن عُقبة بن صَهبان قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ } فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَأمَّا السَّابقُ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالْجَنَّةِ، وَأمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنْ تَبعَ أثَرَهُ مِنْ أصْحَابهِ حَتَّى لَحِقَ بهِ، وَأمَّا الظَّالِمُ فَمِثْلِي وَمِثْلَكَ). وقال سهلُ بن عبدِالله: (السَّابقُ الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ الْجَاهِلُ).

وَقِيْلَ: السابقُ الذي اشتغلَ بمَعادهِ، والمقتصدُ بمعَادهِ ومعاشهِ، والظالِمُ الذي اشتغلَ بمعاشهِ عن معادهِ. وَقِيْلَ: الظالِمُ طالِبُ الدُّنيا، والمقتصدُ طالبُُ العُقبَى، والسابقُ طالب المولَى. وَقِيْلَ: الظالِمُ الْمُرائِي في جميعِ أفعالهِ، والمقتصدُ المرائِي في بعضِ أفعالهِ دون بعضٍ، والسابقُ المخلِصُ في أفعالهِ كلِّها.

السابقالتالي
2