الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أبي مُعَمَّرٍ جَمِيْلِ بْنِ أبي رَاشِدٍ الْفِهْرِيِّ، وَكَانَ رَجُلاً حَافِظاً لَبيْباً لِمَا يَسْمَعُ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ فِي جَوْفِي لَقَلْبَيْنِ، أعْقِلُ بكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أفْضَلَ مِنْ عَقْلٍ مُحَمَّدٍ! وَكَانَتْ قُرَيْشُ تُسَمِّيْهِ ذا الْقَلْبَيْنِ لِدَهَائِهِ وَكَثْرَةِ حِفْظِهِ لِلْحَدِيْثِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الآيَةَ تَكْذِيْباً لَهُمْ، فَأَخْبَرَ أنَّهُ مَا خَلَقَ لأَحَدٍ قَلْبَيْنِ.

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْر وَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ وَفِيْهِمْ أبُو مُعَمَّرٍ، تَلَقَّاهُ أبُو سُفْيَانَ وَهُوَ يَعْدُو وَإحْدَى نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ وَالأُخْرَى فِي رجْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أبَا مُعَمَّرٍ مَا فَعَلَ النَّاسُ؟ قَالَ: انْهَزَمُواْ. فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُ إحْدَى نَعْلَيْكَ فِي يَدِكَ وَالأُخْرَى فِي رجْلِكَ؟! فَقَالَ: مَا شَعَرْتُ إلاَّ أنَّهُمَا فِي رجْلِيَّ. فَعَرَفُواْ يَوْمَئِذٍ أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ قَلْبَانِ مَا نَسِيَ نَعْلَهُ فِي يَدِهِ).

وقال الزهريُّ ومقاتلُ: (هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُظَاهِرِ امْرَأتَهُ وَالْمُتَبَنِّي وَلَدَ غَيْرِهِ، يَقُولُ: فَكَمَا لاَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ قَلْبَانِ، لاَ تَكُونُ امْرَأةُ الْمُظَاهِرِ أُمَّهُ حَتَّى لاَ يَكُونَ لَهُ أُمَّانِ، وَلاَ يَكُونُ وَلَدٌ ابْنَ رَجُلَيْنِ).

قًَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ }؛ أي ما جَعَلَ نساءَكم اللاَّئي تقولونَ لَهُن: أنتُنَّ علينا كظُهور أُمَّهاتِنا، لَم نجعلَهن كأُمَّهاتِكم في الْحُرْمَةِ. وكانت العربُ تُطَلِّقُ نساءَها في الجاهلية بهذا اللفظِ، فلما جاءَ الإسلامُ نُهُوا عنه، وأُوجِبَتِ الكفارةُ في سورةِ الْمُجادلَةِ.

قًَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ }؛ أي ما جعلَ مَن تدَّعُونَهُ ابناً من أبناءِ غيرِكم كأبنائكم الذين مِن أصْلاَبكم في الانتساب والْحُرمَةِ والْحُكْمِ، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ بَعْدَ أنْ أعْتَقَهُ، فَكَانَ يُقَالُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ أُمِرَ أنْ تُلْحَقَ الأدْعِيَاءُ بآبَائِهم، وَكَانَ يَوْمَ تَبَنَّاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْوَحْيِ.

قرأ نافعُ وأبو عمرٍو (وَتَظَّهَّرُونَ) بفتح التاءِ وتشديد الظَّاء والهاءِ من غير ألِف، وقرأ الشَّاميُّ كذلك إلاّ أنَّه بألف، وقرأ حمزةُ والكسائي مثلَ قراءةِ شامي إلاّ أنه بالتخفيفِ، وقرأ عاصمُ والحسن بضمِّ التاء وتخفيف الظَّاء وبألف وكسرِ الهاء، قال أبو عمرٍو: (وَهَذا مُنْكَرٌ؛ لأَنَّ التَّظَاهُرَ مِنَ التَّعَاوُنِ).

قًَوْلُهُ تَعَالَى: { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ }؛ أي الذي تقولونَهُ من إضافةِ القَلبَينِ إلى الرجُل الواحدِ، وقولِ الرجُل لامرأتهِ: أنتِ علَيَّ كظهرِ أُمِّي، وقولِ الرجُل لغيرِ ابنه: هذا ابْنِي، قَولهُ: تقولونَ بأفواهِكم من غيرِ أن يكون له حقيقةٌ ولا عليه دلالةٌ ولا حُجَّةٌ، { وَٱللَّهُ }؛ تعالَى: { يَقُولُ ٱلْحَقَّ }؛ أي يُبَيِّنُ أنَّ الذين يقولونه قولٌ باطل، { وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ }؛ أي يَدُلُّ على طريقِ وإلى الدِّين المستقيمِ.