الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ }؛ يعني العقلَ والعلم والعملَ به، والإصابةَ في الأمور. واتَّفقَ العلماءُ على أن لُقْمَانَ حكيماً، ولَم يكن نَبيّاً إلاّ عكرمةُ وحدَهُ فإنه قال: (كَانَ لُقْمَانُ نَبيّاً)، وقال بعضُهم: خُيِّرَ لقمانُ بين النبوَّة والحكمةِ فاختارَ الحكمةَ!

وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: " حَقّاً أقُولُهُ: لَمْ يَكُنْ لُقْمَانُ نَبيّاً، وَلَكِنْ عَبْداً صَمْصَامَةً، كَثِيْرَ التَّفَكُّرِ، حَسَنَ الْيَقِيْنِ، أحَبَّ اللهَ فَأَحَبَّهُ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بالْحِكْمَةِ " ورويَ أنه كان تَتَلْمَذَ لألفِ نبيٍّ عليهم السَّلام.

واختَلفُوا في حِرفتهِ، فقالَ الأكثرُون: كان نَجَّاراً، ويقالُ: كان خيَّاطاً، ويقالُ: كان رَاعياً، ويروى: كان عَبْداً حَبَشِيّاً غليظَ الشَّفتين مشقوقَ الرِّجلين.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مَرَّ رَجُلٌ بلُقْمَانَ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ حَوْلَهُ وَهُوَ يَعِظُهُمْ، فَقَالَ: ألَسْتَ الْعَبْدَ الأَسْوَدَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا بَلَغَ بكَ إلَى مَا أرَى؟ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيْثِ؛ وَأدَاءُ الأَمَانَةِ؛ وَتَرْكُ مَا لاَ يَعْنِيْنِي).

وعن أنسٍ: (أنَّ لُقْمَانَ كَانَ عَبْدَ دَاوُدَ عليه السلام وَهُوَ يَسْرِدُ دِرْعاً، فجَعَلَ لُقْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِمَّا يَرَى، وَيُرِيْدُ أنْ يَسْأَلَهُ فَمَنَعَتْهُ حِكْمَتُهُ مِنَ السُّؤَالِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا، جَعَلَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ: نِعْمَ دِرْعُ الْحَرْب هَذَا وَنِعْمَ حَامِلُهُ، فَقَالَ لُقْمَانُ: الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيْلٌ فَاعِلُهُ).

وقال عكرمةُ: (كَانَ لُقْمَانُ مِنْ أهْوَنِ مَمَالِيْكِ سَيِّدِهِ، فَبَعَثَ مَوْلاَهُ مَعَ عَبيْدٍ لَهُ إلَى بُسْتَانٍ لِمَوْلاَهُمْ يَأْتُونَهُ مِنْ ثَمَرِهِ، فَجَاءُوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، وَقَدْ أكَلُواْ الثَّمَرَةَ، وَأحَالُواْ عَلَى لُقْمَانَ بذَلِكَ! فَقَالَ لُقْمَانُ لِمَوْلاَهُ: إنَّ ذَا الْوَجْهَيْنِ لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللهِ أمِيْناً، فَاسْقِنِي وَإيَّاهُمْ مَاءً حَمِيْماً، فَسَقَاهُمْ فَجَعَلُواْ يَتَقَيَّؤُن الْفَاكِهَةَ، وَجَعَلَ لُقْمَانُ يَتَقَيَّأُ مَاءً بَحْتاً، فَعَرَفَ صِدْقَهُ وَكَذِبَهُمْ).

قال: (وَأَوَّلُ مَا رُويَ مِنْ حِكْمَتِهِ أنَّهُ جَاءَ مَعَ مَوْلاَهُ فَدَخَلَ الْمَخْدَعَ، فَأَطَالَ الْجُلُوسَ فِيْهِ، فَنَادَاهُ لُقْمَانُ: إنَّ طُولَ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَاجَةِ يَتَجَمَّعُ مِنْهُ الْكَدَرُ، وَيُورثُ الْبَاسُورَ، وَتَصْعَدُ الْحَرَارَةُ إلَى الرَّأسِ، فَاجْلُسْ هُوَيْناً وَقُمْ هُوَيْناً، قَالَ: فَخَرَجَ وَكَتَبَ حِكْمَتَهُ عَلَى بَاب الْحَشِّ).

ومعنى الآية { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ } عِلْمَ التوحيدِ والمواعظِ والفقهِ والعقل والإصابة في القولِ، وألْهَمناهُ أن يشكرَ اللهَ على ما أعطاهُ من الحكمةِ.

ومعنى قولهِ: { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ }؛ أي قُلنا له: اشْكُرِ اللهَ فيما أعطاكَ من الحكمةِ، { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ }؛ أي مَن يشكرُ نِعَمَ اللهِ فإن منفعةَ شُكرهِ راجعةٌ إلى نفسهِ، { وَمَن كَفَرَ }؛ فلم يُوَحِّدْ، { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ }؛ عن شُكرهِ، { حَمِيدٌ }؛ يحمَدهُ الشاكرُ ويثبته على شُكرهِ.