الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ }

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ }؛ أي فيه علاماتٌ واضحات، وهُنَّ ما تقدَّم ذكرُه ومقامُ إبراهيم أيضاً، والآيةُ في مقامِ إبراهيمَ: أن قدمَيه دخلتَا في حَجَرٍ صَلْدٍ بقدرةِ اللهِ تعالى صارَ الحجرُ كالطينِ حتى غَاصَتْ قدماهُ فيه ثم عادَ حَجَراً صَلْداً ليكونَ ذلكَ دلالةً على صِدْقِ نبوَّته عليه السلام. قرأ ابنُ عبَّاس: (فِيْهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ) على الواحدِ وأرادَ مقامَ إبراهيم وحدَهُ. وقرأ الباقون بالجمعِ أرادُوا مقامَ إبراهيم والحجرَ الأسود وَالْحَطِيْمَ وزَمْزَمَ والْمَشَاعِرَ كلَّها.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً }؛ قال الحسنُ: (عَطَفَ اللهُ قُلُوبَ الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أنَّ كُلَّ مَنْ لاَذ بالْحَرَمِ وَإنْ كَانَ جَانِياً لاَ يُهَاجُ فِيْهِ، وَذلِكَ بدُعَاءِ إبْرَاهِيْمَ عليه السلام حَيْثُ قَالَ:رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } [البقرة: 126] وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ دَخَلَهُ أمِنَ مِنَ الْقَتْلِ؛ وَلَمْ يَزِدْهُ الإسْلاَمُ إلاَّ شِدَّةً. وقيل: إن أوَّل من لاذ بالْحَرَمِ: الحيتانُ الصغارُ من الكبار في الطُّوفان، وقيل: من دخلَهُ عامَ عُمرة القضاء مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان آمِناً، بيانهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [الفتح: 27].

قال أهلُ المعانِي: صورةُ الآية خبرٌ؛ ومعناها: أمرٌ؛ تقديرُها: ومَن دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ، لقولهِ:فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [البقرة: 197] أي لا تَرْفُثُواْ ولا تفسُقوا ولا تُجادِلوا. وقيل: معناهُ: مَن دخلَهُ لقضاءِ النُّسُكِ مُعَظِّماً للهِ عارفاً بحقوقه متقرِّباً إلى اللهِ تعالى كان آمِناً يومَ القيامة. وقال الضحَّاك: (مَعْنَاهُ: مَنْ حَجَّهُ فَدَخَلَهُ كانَ آمِناً مِنَ الذُّنُوب الَّتِي اكْتَسَبَهَا قَبْلَ ذلِكَ). وقال جعفرُ الصَّادق: (مَنْ دَخَلَهُ عَلَى الصَّفَاءِ كَمَا دَخَلَهُ الأَنْبيَاءُ وَالأَوْلِيَاءُ كَانَ آمِناً مِنْ عَذابِهِ).

قال أبو النَّجم القرشيُّ: كنتُ أطوف بالبيتِ؛ فقلتُ: (يَا سيِّدي قد قُلْتَ: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) مِنْ أيِّ شيءٍ؟ فسمعتُ قائلاً مِن ورائِي يقولُ: آمِناً مِن النار؛ فالتفَتُّ فلم أرَ شيئاً). يدلُّ على هذا ما رَوى أنسُ بن مالكٍ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ مَاتَ فِي أحَدِ الْحَرَمَيْنِ بَعَثَهُ اللهُ مِنَ الآمِنِيْنَ " وقال صلى الله عليه وسلم: " الحُجُونُ وَالبَقِيْعُ يُؤْخَذُ بأَطْرَافِهِمَا وَيَنْتَشِرَانِ فِي الجَنَّةِ " وهُما مَقْبَرَتَا مكَّةَ والمدينةِ. وقال صلى الله عليه وسلم: " مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مَكَّةَ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ جَهَنَّمُ مَسِيْرَةَ مِائَتَي عَامٍ؛ وَتَقَرَّبَتْ مِنْهُ الْجَنَّةُ مَسِيْرَةَ مِائَةِ عَامٍ "

وقال وَهَبُ بْنُ مُنَبهٍ: (مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ سَبْعَمِائَةَ ألْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبيْنَ إلَى الْبَيْتِ، بيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِلْسِلَةٌ مِنْ ذهَبٍ، فَيَقُولُ لَهُم: اذْهَبُواْ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، قَرِّمُوهُ بهَذِهِ السَّلاَسِلِ ثُمَّ قُودُوهُ إلَى الْمَحْشَرِ؛ فَيَأْتُون بهِ بسَبْعَمِائَةِ سِلْسِلَةٍ مِنْ ذهَبٍ؛ ثُمَّ يَقُودُونَهُ وَمَلَكٌ يُنَادِي: يَا كَعْبَةَ اللهِ سِيْرِي، فَتَقُولُ: لَسْتُ سَائِرَةً حَتَّى أعْطَى سُؤْلِي، فَيُنَادِي مَلَكٌ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ سَلِي، فَتَقُولُ: يَا رَبَّ شَفِّعْنِي فِي جِيْرَتِي الَّذِيْنَ دُفِنُواْ حَوْلِي مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ، فَيَقُولُ اللهُ: قَدْ أعْطَيْتُكِ سُؤْلَكِ، فَيُحْشَرُ مَوْتَى مَكَّةَ مِنْ قُبُورهِمْ بيْضَ الْوُجُوهِ كُلُّهُمْ مُحْرِمُونَ؛ فَيَجْتَمِعُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ يُلَبُّونَ، ثُمَّ تَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ: سِيْرِي يَا كَعْبَةَ اللهِ؛ فَتَقُولُ: لَسْتُ سَائِرَةً حَتَّى أعْطَى سُؤْلِي، فَيُنَادِي مَلَكٌ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ: سَلِي، فَتَقُولُ: يَا رَبَّ؛ عِبَادُكَ الْمُذْنِبيْنَ الَّذِيْنَ وَفَدُواْ إلَيَّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيْقٍ شُعْثاً غُبْراً؛ قَدْ تَرَكُواْ الأَهْلِيْنَ وَالأَوْلاَدَ وَالأَحْبَابَ، وَخَرَجُواْ شَوْقاً زَائِرِيْنَ مُسَلِّمِيْنَ طَائِعِيْنَ حَتَّى قََضَوا مَنَاسِكَهُمْ كَمَا أمَرْتَهُمْ، فَأَسْأَلُكَ أنْ تُؤْمِّنَهُمْ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ وَشَفِّعْنِي فِيْهِمْ وَتُجَمِّعَهُمْ حَوْلِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ: إنَّ مِنْهُمْ مَنِ ارْتَكَبَ الذُّنُوبَ بَعْدَكِ وَأَصَرَّ عَلَى الْكَبَائِرِ حَتَّى وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، فَتَقُولُ الْكَعْبَةُ: إنَّمَا أَسْأَلُكَ الشَّفَاعَةَ لأهْلِ الذُّنُوب الْعِظَامِ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: قَدْ شَفَّعْتُكِ فِيْهِمْ وَأعْطَيتُكِ سُؤْلَكِ.

السابقالتالي
2 3